الأربعاء، 10 يونيو 2015

الحلقة الأولى

ceddsorueaamqvv_small.jpg

 بعد طول إنتظار لأكثر من عشرة أيام على قارعة الطريق مع عشرات العائلات وقفتُ على أعتاب آخر محطة قبل الوصول إلى أول نقطة في أرض قيلَ فيها الكثير، ونسجت عنها الروايات، وحيكت حولها الأساطير، حتى فاقت غرابة حكاياتها قصص الألف ليلة وليلة..!

بضعة مئات من الأمتار، هي كل ما تفصلني الآن عن أرض الأمل، كما يحلو للبعض أن يسميها، مئات من الأمتار قطعتها سيراً على الأقدام، وعلى ظهري حقيبة جمعت فيها بعض ملابسي، وحذاء خاص بالسير لمسافات بعيدة، وأدوات أخرى، فضلاً عن كاميرا فيديو، ومثلها فوتوغرافية أحملها بيدي مع جهاز كمبيوتر محمول (لابتوب)!

b-pzwwvueaeic0q_small.jpg

قبل آخر نقطة تفتيش مررت بها سألني أحدهم، ممن كان يروم دخول أرض الخلافة هو الآخر، عن هويتي، فأبلغته إنني أحمل جواز سفر أجنبي، فأرتعدت فرائصه، وقال لي:

هل أنت مجنون، كيف تدخل أرض (داعش) وأنت تحمل جواز سفر أجنبي، لقد سمعت من الإعلام عنهم الكثير الكثير.. ربما سيقطّعونك إرباً ويرمون لحمك للكلاب، كما يقول الإعلام عنهم، أو ربما يقايضونك بفدية كبيرة مع دولتك التي جئت منها، ناصحاً إياي بإخفاء جواز سفري في مكان لا يستطيعوا الوصول إليه، أو التخلص منه كأسلم إجراء إن كنت مضطراً للدخول.. ثم أضاف:

أنا لم أدخل هذه الأرض منذ عدة أشهر، فلقد (سقطت الموصل) وأنا خارج المدينة، والآن قررت العودة لأرى ما حل بمدينتي، حيث اضطررت للعودة بعدما نفذت أموالي خارج البلاد!

حينها عرفت أن هذا الشخص كان يقطن الموصل، وأنه يريد دخولها اليوم لأول مرة بعد التحرير، لكنه يحمل في رأسه أفكاراً عدة حول ما يجري هناك، وكل ما يحمله قد ترسّخ في ذهنه عن طريق الإعلام اللا منصف المعادي للدولة الإسلامية!

وأنا أقطع المسافة، التي تفصل بين العدوين اللدودين، سيراً على الأقدام، اختلجت وامتزجت بداخلي مشاعر عدة، فهناك، وأنا اُغادر آخر نقطة في عالم معروف للجميع، عالمٌ (شيعي – كردي) يغطيه إعلام تسابق على خدمته في السّراء والضّراء، على الحق وعلى الباطل، رغم ضآلة الحق عندهم وندرته، وتعاظم باطلهم وقوته، عالم يراه البعض محكوماً بقانون، في الوقت الذي تحكمه، في حقيقة الأمر، شريعة الغاب، وفساد يغطيهم من رأسهم إلى أخمص أقدامهم.. وقفت هناك وسط تناقضات المشاعر، رغم معرفتي بإن تلك الأرض التي بُتُّ عند مدخل أولى بواباتها لا يمكن أن تغدر، فلقد عايشتها بقلمي، وكتبت عن جنودها، وعن جهادها، وعن مشروعها منذ سنين خلت، ولكن الكتابة شيء، ودخول أرضها اليوم ومعتركها شيء آخر..!

b-u-hmluaaaunm9_small.jpg

ورغم المخاوف التي كان يحاول الإعلام على إختلاف مشاربه وتوجهاته المشبوهة، وجهلة الناس زرعها في نفوس المشتاقين إلى تحكيم شرع الله من أمثالي، إلا إنني هناك قد شعرت، ولأول مرة، بنسمة هواء تأتيني من ذلك الإتجاه، حيث أرض الوغى والجهاد المقدس، كنت أتنفس بعمق، وكإني لم أتنفس هواءاً من قبل، كنت ابتسم في داخلي، واشعر برغبة في الجري لاُسابق بعض الناس الذين تقدموني في سيرهم نحو حدود دولة الخلافة، لكني كنت اُفضّل أن أكون وسط الناس حتى لا اجلب الأنظار، فالأمتار الأخيرة التي بدأت أشعر إنها الأطول مسافة على وجه هذه الأرض، أريد إنهاؤها على خير، فقد كنت أراها الأخطر في كل رحلتي، رغم كل الصعاب التي واجهتها، والمخاطر التي جابهتها، والاعتقالات التي تعرضت لها في رحلتي الطويلة هذه!

وما هي سوى بضع عشرات من الدقائق التي تفصل بين الحدّين، كنت أراها دهوراً وأعوام، حتى وصلت لأرض الأحلام، تلك الأرض التي عشت فيها يوماً، وتجولت في ربوعها، ومارست عملي فيها كصحفي وكإعلامي، بل وتعاملت مع مجاهديها، رغم أنف المحتل الأميركي، ورغم أنف كلابهم المرتدين والصفويين الخاضعين لسلطة الغزاة، لكنني قد تركت هذه الأرض منذ سنين طوال، تجاوزت الثمان، كارهاً غير راغب، والجيل الأول والثاني الذي تعاملت معه قد التحق معظمهم بقطار الشهداء ممن بُنيت على جماجمهم وأشلائهم أركان دولة الخلافة التي اُقيمت اليوم، بفضل الله تعالى، وجاءت بعد تلك الثلة المباركة أجيالاً جهادية أخرى، فمن كان صبياً في مقتبل العمر أول الاحتلال، امسى اليوم رجلاً صلباً، صلداً، لا تهزه الشدائد، ومن كان طفلاً ما يزال لبن أمه الطاهر في فمه، قد غدى اليوم فتىً يافعاً، وجندياً لا تفتنه النوائب، مجاهداً في جيش الحق، جيش الخلافة ينازل الباطل في هذه الحرب العقائدية التي يخوضها المسلمون ضد جموع الكفر والإلحاد والشرك والردة التي تكالبت على أُمة الإسلام من كل حدب وصوب!

utyjrths_small.jpg

كانت عيون الجنود المدججين بالسلاح وبالدروع الواقية والمنتشرين على جانبي الطريق ولمسافة مئات الأمتار ترمقني وكإني وحش كاسر، أو هكذا كنت أشعر وأنا أرقُب نظراتهم نحوي، كان الشرر يتطاير من تلك العيون الغائرة، بل كنت ألحظ وأقرأ الخوف والرعب بداخل تلك العيون، حتى شعرت أن مجرد الإنتهاء من هذه المسافة الفاصلة بين معسكري الحق والباطل إنما هو عيد، بل ولادة لي من جديد!

وصلت إلى أرض الخلافة وقبل أن اُقبّل ترابها ألتفت خلفي، وكان يجول في خاطري أن ابصق على كل ما هو خلفي، لولا بعض الناس الذين لا يزالون يسيرون ورائي ممن كانوا يقصدون وجهتي، لكني وضعت حقيبتي من على ظهري، وألقيت بكاميرتي والـ(لابتوب) بجانب الحقيبة، وأخذت اُقبّل الأرض، وأعفر وجهي بتراب أرض الخلافة..!

نهضت بعد طول إحتضان لتلك الأرض التي طال عودتي إليها، وأخذت الموبايل لأتصل على زوجتي، التي تركتها مع طفلاي خلفي، إذ لم استطع إصطحابهم معي إلى أرض الخلافة لصعوبة الإجراءات، وتعقيدات ما قبل الوصول، فأبلغتها أني دخلت الآن لأخطر أرض، كما يصفونها، ولن يكون بالإمكان التواصل، فلا إتصالات هناك ولا إنترنت، ولا أية وسيلة أخرى، لهذا عليكِ، كما أخبرتها، أن تربي لي اُسوداً جائعة، لا أغنام مدجّنة، قاصداً بذلك طفلاي اللذين تركتهما خلفي..!

حينما اتصلت على زوجتي كانت تلك الكلمات هي آخر ما سمعتها مني، واردفتها بـ( إن كتب الله لي العيش، فسأعود يوماً، وإن لم أعد فأصبري واحتسبي، فما خرجت بطراً، ولا بحثاً عن مجدٍ زائل، إنما هي حقيقة وواقع مغيب يجب أن أقف عليه بنفسي واستكشف خفاياه، حتى لا أكون كمن يهذي بما لا يدري، ويكتب عما يسمعه من أفواه الآخرين، فلابد أن أقف على مكامن وبواطن الأمور، بعيداً عن التعصب والتحزب الأعمى، والكذب المفضوح، والنقل اللا أمين، وفبركة القنوات ودجلها!

بجواري، وعلى بعد أمتار من آخر نقاط التفتيش لآخر موقع تابع لسلطة (الشيعة والأكراد)، كانت هناك مجموعة سيارات أجرة، بعض سائقيها ينادي: (حويجة.. حويجة)، وبعضهم الآخر يعلو صوته بـ (گيارة.. گيارة)، وبعضها ينادي باسم مدن آخرى، فيما شدني صوت سائق ينادي (موصل.. موصل)!

يا لوقع هذا الاسم.. لم يكن في بالي أن اتجه إلى هذه المدينة، فلم أكن قد حددت وجهة لي بعد، فكل ما كان يهمني حينذاك كيفية الوصول إلى أرض الخلافة.. لكن وقعُ إسم الموصل سحرني، كيف لا، وهي التي إنهارت فيها جموع الضلال في سويعات، فتحررت على أيدي المجاهدين بلمح البصر..!!

لبرهة عادت بي الذاكرة لأيام وساعات تحرير هذه المدينة الإسطورية لحظة بلحظة، حينها كنت على تواصل مع القنوات الفضائية، وأزوّدهم بأخبار المعارك أولاً بأول، فكنت على تواصل مع كثير من أبناء هذه المدينة، ممن كانوا يزودوني بالأحداث العاجلة حال وقوعها، حتى بدى لكثير من وسائل الإعلام التي كانت تعتمد أخباري إنني كنت في أرض المعركة، وهكذا كنت أحسب نفسي!

سرت بعد ذاك نحو مصدر ذلك الصوت وهو ينادي: (موصل موصل).. وقفت أمام السائق بحقائبي، خاطبته بحماس:

أين سيارتك؟!

أجابني:

هناك، في تلك السيارة، مشيراً إلى سيارة نوع (كيا)، تتسع لأحد عشر راكباً، اتجهت إليها، وكانت على بُعد قرابة العشرين متراً، قطعتها بخطوتين، أو هكذا خُيّل إليِّ!

كانت تلك اشبه ما تكون بالأرض الحرام في المعارك، كانت أرضيتها غارقة بالنفايات، فلا أحد من الطرفين المتحاربين يدخلها، باستثناء المدنيين المتنقلين بين الدولتين بحدودهما الجديدة المؤقتة، لهذا كانت أرضها أشبه ما تكون ببرميل نفايات، إذ ينتظر الناس على أديمها أياماً وأسابيع قبل أن يُسمح لهم بالمرور من قبل مناوئي الدولة الإسلامية، فهؤلاء المناوئون ينظرون إلى من يدخل أراضي الدولة الإسلامية على إنه إرهابي، أياً كان عمله، أو مهنته، أو حجته، أو إنتمائه القومي، ما دام مسلماً سنياً، أو عربياً موحداً، والحال ذاته ينطبق على كل من يخرج من أرض الخلافة حيث يُعامل هو الآخر على إنه إرهابي، لا تزال يداه تقطر من دماء جنود الشيعة والكرد ومليشياتهم والمتعاونين معهم أياً كان عمره أو جنسه!

_________________small.jpg

وضعت الكاميرا والـ(لابتوب) بجانبي، حيث المقاعد التي تقع خلف مقعد السائق، ثم وضعت حقيبتي في صندوق السيارة الصغير، الذي بالكاد اتسع لبضعة حقائب، من على شاكلة حقيبتي، فيما تم وضع بقية الحقائب فوق قمرة السيارة بعدما رُبطت بالحِبال، ثم جلستُ منتظراً إنطلاق السيارة نحو المدينة الأكثر رعباً في نظر العالم، الموصل!

اكتمل العدد، إلا واحداً، وما هي لحظات حتى جاءت سيدة تكاد تبلغ الخمسين، أو أقل من ذلك، أو ربما تزيد بعام أو عامين، لتصبح السيارة على أهبة الإنطلاق بعد تمام العدد..

جلست تلك السيدة في المقعد الذي يليني، ويجاورها شابين في العشرينات من العمر، وخلفهما عائلة مكونة من رجل وسيدتين، أما أنا فكان بجواري شابين، كنت أنا الأقرب إلى باب السيارة منهما، فيما جلس رجلان في المقعد الأمامي بجوار السائق، أحدهما كان اُستاذاً جامعياً، كما تبين لاحقاً، والآخر رجلٌ في الثلاثينات من العمر..!

انطلق السائق، بعدما طلب خمس وعشرين ألف دينار عن كل شخص كإجرة، فوافق الجميع بلا تردد، فهي تسعيرة معقولة، بل ومخفضة، للذهاب إلى مدينة اسمها كحد السيف!

___________________________________small

على بعد مئات الأمتار، وتقريباً على مسافة كيلو متر واحد أو يزيد بقليل، وصلنا أولى نقاط التفتيش التابعة إلى دولة الخلافة الإسلامية.. كانت الراية السوداء المنقوش عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) تعلو جسراً هو بمثابة الحد الفاصل عملياً بين حدود الدولة الإسلامية وحدود أعدائها.. تأملت تلك الراية التي كانت ترفرف بزهو وشموخ في أرض الإسلام، بعدما كان مجرد رفعها في مكان ما يمثل قمة الإرهاب، لا بل ويتعرض رافعها إلى الإعتقال والتعذيب، بل والتقتيل، من شدة الرعب مما تمثله من إسلام حقيقي تحاول الأمم التي تكالبت على اُمة محمد، صلى الله عليه وسلم، محاربته، وطمس هويته، وقتل أتباع نبيه!

استغربت بداية الأمر لقرب المسافة التي تفصل الدولة الإسلامية عن عدوها.. كان الجسر يربط عدة تقاطعات على الطريق، والذي تعرض إلى القصف، لا يزال منتصباً رغم عنف الهجوم، حيث تبين أن الطيران الأميركي والفرنسي والبريطاني والسعودي والأردني والإماراتي والمغربي والإيراني قد قصفه بستة صواريخ، لم تحدث أضراراً إلا في أجزاءٍ منه، لكنه على العموم لا يمكن السير من فوقه نتيجة الفتحات والثقوب التي خلفها القصف، والتي ابصرتها من تحت الجسر أثناء مرورنا من تحته، والذي كان يتوقف تحته أول مقاتل من جيش دولة الخلافة الإسلامية تقع عليه عيناي بعد آلاف الكليومترات التي قطعتها نحو أرض الخلافة الإسلامية!

كان شكل التقاطع مانعاً صناعياً، ومصداً، وساتراً لأي إستهداف قد تتعرض إليه أولى نقاط التفتيش التابعة للدولة الإسلامية، ما خلا السماء المفتوحة، التي تبقى أنظار جنود الدولة الإسلامية مشدودة إليها لتفادي أي هجوم بالطيران (الغربي – العربي – الإيراني)..!

توقفت السيارة التي نستقلها خلف سيارة كان جنود الدولة الإسلامية يتحدثون مع سائقها ومع ركابها، فسارعت بحكم قربي من الباب إلى الترجل والإقتراب من السيارة الأولى التي كان عناصر الدولة الإسلامية يقومون بتفتيشها بحكم فضولي الصحفي ورغبتي في مراقبة طريقتهم في تفتيش ومعاملة الناس، فوقفت بجانب ركاب تلك السيارة دون أن يمنعني عناصر التفتيش من الوقوف معهم!

32468_small.jpg

سأل رجال الدولة الإسلامية ركاب تلك السيارة إن كان هناك من يحمل معه أو في جيبه أو في حقيبته سجائر، فنفى الجميع، بضمنهم سيدة، يكاد عمرها يصل لمنتصف العقد الخامس من عمرها، إلا إن طفلاً كان برفقة تلك السيدة راح يستفسر من والدته قائلاً:

أمي، أوليس معك سكائر، لماذا لا تقولين عندي سجائر!!؟

حينها ضحك رجال الدولة الإسلامية من براءة الطفل، وأعادوا السؤال ثانية دون أن يحددوا لمن السؤال موجه، فما كان من السيدة إلا أن قالت:

نعم أبنائي، أنا معي سجائر!

فطلبوا منها على إستحياء أن تُخرجها، فأبلغتهم إنها تضعها في حزام تربطه حول خصرها، فطلبوا منها أن تستتر خلف موضع أقاموه من الجدران الكونكريتية المسلحة يلجئوا إليه في حال تعرضهم إلى هجوم الطيران المعادي، فأتجهت هذه السيدة إلى هذا المكان لتستخرج علب السجائر من حزامها الذي تخفيه تحت عباءتها، فيما انشغل جنود الدولة مع بقية الركاب في حديث لم اسمع منه الكثير، حيث كانوا يتحدثون معهم بهدوء، وما هي سوى لحظات حتى عادت السيدة ومعها ثلاثة (كلوصات) سجائر، والـ(كلوص) هي التسمية التي يطلقها العراقيون على كل عشرة علب صغيرة من السجائر توضع في علبة كبيرة.. كانت السيدة تحمل قرابة الثلاثين علبة صغيرة من السجائر في حزامها العريض التي كانت تلفه حول خصرها، فتسلمها منها أحد جنود الدولة الإسلامية مخاطباً إياها بـ (أمي) دون ان ينظر إليها قائلاً:

يا أم، والله إني لأخجل من محاسبة الشباب على حملهم السجائر، فكيف بك أنتِ.. ثم أضاف:

اسأل الله أن يغفر لنا ولكِ، تفضلي عودي إلى مكانك في السيارة يرحمك الله!

كان ذلك المشهد، الذي لم يغادر خيالي، أول موقف أراه وأشهده بنفسي يتعلق بطريقة تعامل جنود الدولة الإسلامية مع المواطنين ممن يسكنون في المناطق السُنّية التي تم تحريرها من سيطرة الشيعة والأكراد، والحق أقول إنني كنت اترقب طريقة تعاملهم مع هذه السيدة والحكم الذي يمكن أن يصدروه بحق من يثبت حمله للممنوعات، ومنها السجائر، كما هو في قانون الدولة الإسلامية الذي يستند إلى دستور وشريعة الله، سبحانه وتعالى، فلم استغرب طريقة تعاملهم الخجولة والتسامحية مع تلك السيدة، فمن يستمع ويشاهد الإعلام العراقي والعربي والكردي والعالمي يكاد يجزم أن جنود الدولة الإسلامية كانوا سيفصلون رأسها عن جسدها ثم يحرّقونها في إخدود يتم حفره لها بجوار نقطة التفتيش كما اعتدنا على سماع ذلك من الإعلام على إختلاف نِحَلِهِ!!

طلب أحد جنود الدولة الإسلامية من سائق السيارة التي تقلنا التقدم إلى الإمام إستعداداً للتفتيش فعدت وجلست في مكاني لتتحرك السيارة بضعة أمتار ليس إلا!

كان الشاب الذي يجلس بجانبي قد اُصيب بنوع من الإرتباك، مثلما لاحظت عليه، فسرعان ما سألني:

ما الذي أفعله.. ما الذي سيحصل لي، وكلمات أخرى كان يتمتم بها!

سالته عن مشكلته، فقال لي إنه يحمل علبة سجائر في جيبه، وإنه يخشى أن يعتقلوه بسببها، فسألني رأيي إن كان بإمكانه أن يرميها من السيارة، أو يخفيها أسفل المقعد، فطلبت منه التروي وإلتزام الهدوء، وإنه ليس هناك ما يستحق القلق.. قلت له ذلك بعدما شاهدت طريقة تعاملهم مع تلك السيدة في السيارة التي سبقتنا، لكن القلق لم يغادره، وبقي يرتجف من شدة الخوف!

توقف أمام الباب الجانبي للسيارة أحد رجال الدولة الإسلامية، وكان شاباً في العشرينيات من العمر..

كان هادئاً بشكل غريب، والإبتسامة لا تفارق محياه.. بدأنا بالسلام، دون أن يطلب منا النزول من السيارة، كما فعل مع السيارة التي سبقتنا، ثم سألنا إن كان هناك من يحمل السجائر، حتى قبل أن يسألنا عن هوياتنا التعريفية، أو عن وجهتنا.. إزداد توتر الشاب الذي يجلس بجانبي، وكان يكتفي بالنظر إليّ، ولا يعرف بماذا يجيبهم، فهم لا يفتشون أحداً، مكتفين بالسؤال، لكن الخوف كان قد اطبق على الشاب، فبادرت بالإجابة نيابة عنه:

وهل من عقوبة لمن يحمل!؟

فرد عليّ مبتسماً:

لا عقوبة على ذلك، إن سلّمها طوعاً!

فأجبته:

نعم عندنا سجائر، لكن علبة واحدة.. بهذه الصيغة أجبته، فرد عليّ والإبتسامة لا تغادر محياه، بعدما ظن أنني من يحملها:

اعطني إياها غفر الله لك!

فطلبت من الشاب الذي كان يجلس بجانبي إخراج علبة السجائر، فسلمها لي ويده ترتجف من الخوف، فنظر إليّ رجل الدولة الإسلامية الشاب مستغرباً أن غيري من كان يحملها، في حين إنني كنت المتحدث بالنيابة..!

أمسك رجل الخلافة علبة السجائر بيده، ثم ضغط عليها بيديه بقوة، قبل أن يتجه إلى برميل صغير كانت تشتعل فيه النار على مقربة من الطريق، فرمى فيه علبة السجائر، لكنه عاد ليسأل الشاب إن كان يحمل المزيد في حقيبته فنفى الشاب إمتلاكه غير تلك العلبة، ومصداقاً لقوله طلب من رجل الدولة الإسلامية تفتيش حقيبته، لكن الأخير أجابه أنه ما من داعٍ لتفتيشه لأنه يثق بصدقه، لكنه طلب منه الترجل للحديث معه قليلاً!

ترجل الشاب من السيارة، بعدما تغيّر لونه من شدة الرعب، فأمسكه جندي الدولة الإسلامية من يده، وأخذه لمسافة بضعة أمتار عن السيارة، فتبعتهما بدوري، فطلب مني رجل الخلافة العودة ليحدثه لوحده، فذكّرته بالعهد وبالأمان الذي منحه له قبل إخراج علبة السجائر، فتبسّم ثانية وقال لي:

أنا على عهدي، لكن يا أخي، موجهاً الخطاب لي، كيف لشاب مسلم أن يحفَّ حاجبيه كالنساء هكذا، فراح يُذكّره بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، المتعلق بالنامصة والمتنمّصة، ولعن الله لهما، وبقيت استمع، مع الشاب، لحديث ذلك الجندي الذي كان يذكره بعاقبة ذلك، وإنه لن يعاقبه على ذلك، لكنه يُذكّره بلعن الله لمن يفعل، ثم أخذ يربت على كتفه قائلاً له:

لا تكررها، فأنت شاب ورجل، وهذا الفعل لا يليق حتى بالنساء، فكيف بالرجال من أمثالك..!

وعده الشاب أنها ستكون المرّة الأخيرة التي يَحفُّ فيها حاجبيه، مبيناً له عدم معرفته بالجوانب الشرعية في هذا الموضوع، فأجابه، بأن عليه أن يَعِدَ الله، سبحانه وتعالى، لا أن يَعِدَ عباده، فأكد الشاب إنه سيلتزم بهذا الوعد ما دام ذلك الفعل يخالف شرع الله، سبحانه وتعالى، ثم سلّم رجل الدولة الإسلامية على ذلك الشاب سائلاً الله له الثبات على وعده، ثم طلب منه العودة إلى مكانه، فعاد الشاب وأساريره وقسمات وجهه تتهلل من شدة الفرح!

عدنا إلى قرب السيارة، وكان في بالي كلام ذلك الرجل الذي كان ينصحني بعدم إظهار جواز سفري الأجنبي أمام سيطرات ونقاط تفتيش الدولة الإسلامية، وإلا فإنهم سيقطّعونني إرباً إرباً، كما كان يقول لي، لكنني قررت خوض أولى المغامرات المُهلِكة، كما يراها البعض، فاتجهت إلى نفس الرجل، الذي كان يتحدث مع ذلك الشاب، ووضعت يدي على كتفه الذي كان يعلق عليه بندقيته، ثم سحبته لبضعة أمتار عن السيارة التي كنا نقف بجوارها، والتي كان بقية عناصر نقطة التفتيش يتحدثون مع بعض ركابها، فقلت له:

هل هناك نقاط تفتيش أو سيطرات للشيعة أو البككا أو البيشمركة أو النصيرية سنمر بها في طريقنا إلى الموصل، فأجابني وإبتسامته متواصلة لم تفارق قسمات وجهه:

إطمئن، لو سرت بعد نقطة التفتيش هذه آلاف الكليومترات من هنا فلن تجد لهم أثراً، بحمد الله تعالى ومنّه وفضله، فلا وجود إلا للدولة الإسلامية ولرجالها ومسلميها!

ثم تطرقت إلى أخطر تساؤلاتي:

يا حاج، انا جئت من الخارج، وانوي الدخول إلى أرض الخلافة، فما المطلوب مني من أوراق أو إثباتات ليكون دخولي شرعياً إلى أرض الدولة الإسلامية؟!

فأندهش أول الأمر لسؤالي، ثم سألني رؤية جواز سفري، فناولته إياه، ثم ألقى عليه نظرة، قبل أن يرفع عينه عليّ مخاطباً إياي بالقول:

أولستَ مسلماً؟!

اجبته:

بلى!

قال:

اتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟!

اجبته:

نعم، بفضل الله!

فردّ علي:

إذن لن تحتاج لجواز سفرك هذا، ضعه في جيبك، فجواز سفرك إلى دولة الخلافة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهي كل ما تحتاجه للدخول إلى أرض الخلافة!

اغرورقت عيوني بالدموع، وأنا أرى جواز سفري، الذي يحلم به الكثير من الناس، لا يساوي عندهم شيئاً، أمام جواز المرور الإلهي المحمدي الذي سنّته دولة الخلافة لرعاياها من المسلمين، فشعرت بالعزة، بل شعرت إنني في حلم لا أريد الإستيقاظ منه، حلمٌ لم يوقظني منه إلا ذراعي رجل الدولة الإسلامية التي شبكها حولي، وهو يعانقني، قائلاً لي:

مرحباً بك في أرض الخلافة!

 حسين المعاضيدي

 

******************************

 

هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي

b_ldx_2u8aawunu_small.jpg

الحلقة الثانية

canmrr4wsaalx9n_small.jpg

 

هممنا بالإنطلاق نحو مدينة الأنبياء، الموصل الحدباء، بعد الإنتهاء من المرور في أول بوابة لدولة الخلافة الإسلامية، حيث تنفس الجميع الصّعداء، فمن كان الشك يساور خلده انفرجت أساريره، ومن كان بعض الخوف لايزال في فؤاده زال رانه، لكن ووسط تلك المشاعر، التي فوجئ بها ركاب سيارتنا الـ(كيا) من طريقة تعامل رجال الدولة الإسلامية مع الداخلين إلى مضارب خلافتهم، عاد السائق ليتوقف ثانية أمام شخص ذو لحية خفيفة سوداء، شابها بعض البياض، لا يرتدي لباس الدولة الإسلامية المسمى بـ (البزة القندهارية)، وكذلك لم يكن يحمل سلاحاً، بل كل ما كان معه ورقة وقلماً فقط، ظن ركاب السيارة، وأنا أولهم، أنه يتبع لنقطة التفتيش الخاصة بالدولة الإسلامية، بحكم قربه من نقطة التفتيش، لولا هيأته التي لا توحي بإنه منهم، قبل أن يتبين لاحقاً لنا إنه موظف في الدولة الإسلامية يتبع لمؤسسة جباية الضرائب الخاصة بمواقف وكراجات النقل الخاص..!

سألنا قبل أن يتحدث إلى السائق:

كم الإجرة، خرس الجميع، بينهم أنا، فقد اعتدنا أن نصمت في مثل هذه المواقف قبل زمن تحرير أراضينا من الشيعة والأكراد، حرصاً على السائق من العواقب، في حال طلب أجرة فوق التسعيرة المعتادة، تحت البند العاطفي (صاحب عيال)، وكإننا، ومن جهلنا، نظن أن من له عيالاً من حقه أن يستغل الآخرين، حتى ممن لديهم عيال، فاتحين بذلك لسائقي السيارات الأبواب على مصراعيها لإستغلالنا ببشاعة..!

أجاب السائق بنفسه على تساؤلات المسؤول عن كراج النقل:

تقاضيت منهم خمس وعشرون الف دينار..

فرد عليه موظف النقل في الدولة الإسلامية:

أخي، السؤال موجه إلى الإخوة الركاب، حفظك الله، وأريد ان أسمع التأكيد منهم، لا منك!

أجابه الجميع، وبصوت واحد، شاركنا به بذلك حتى النساء:

خمس وعشرون!

إجتمعنا بذلك على أمر الكلام دفعة واحدة، مثلما إجتمعنا على الصمت جميعنا بلا استثناء، وهي من الحالات النادرة التي يجتمع فيها أبناء السُنّة والجماعة على أمر واحد، في ظل تشرذمنا المقيت، وتفرقنا الذي يدمي القلوب!

كان السائق يحمل بيده خمسة آلاف دينار ليعطيها لموظف النقل الخاص، لكن الأخير أكد له أن قيمة الجباية هي عشرة آلاف دينار لخط الموصل، فراح السائق يحلف له بأغلظ الأيمان أنه اشترى السيارة حديثاً، وأن عليه تسديد فواتيرها شهرياً، وأن العشرة آلاف دينار هي مبلغ كبير وو..

رد عليه الموظف لدى الدولة الإسلامية أن التسعيرة موحدة وعامة، وبحسب الخطوط، وأنه لا يستطيع تخفيض السعر لأن تلك أموال المسلمين..!

إزداد السائق في تشكيه، فيما أصرّ الموظف على موقفه بإنها أموال مسلمين ويجب جبايتها، كاملة غير منقوصة، وإلا فإنه سيدفع نقصها من جيبه..!

أمام هذا الجدال أيقن الكل، أولهم أنا، أن موظف الدولة الإسلامية هو من سيمشي كلامه في نهاية المطاف، قبل أن نُصبح جميعنا في موقف لا نُحسد عليه، حينما تنازل الموظف عن موقفه، ولكن ليس بالتنازل عن أموال المسلمين، بل بالتأكيد له، مستخرجاً محفظته من جيبه، إنه سيدفع من جيبه بقية المبلغ، فأخرج الخمسة آلاف من محفظته ووضعها مع مبلغ الخمسة آلاف التي تقاضاها من السائق كجباية لضريبة النقل وقال له:

الله معك أخي.. ثم ابتعد عن الباب، إشارة منه للسائق بالإنطلاق!

وهنا توقف السائق عن الكلام لبرهة، وسط صمتنا جميعنا، وكلنا كان يراقب موقف السائق نفسه، وردة فعله، فما كان من السائق إلا أن قال له:

والله لن أرضاها لك، وهذه الخمسة آلاف الأخرى، وادعو لنا بسلامة الوصول..!

فتناول المبلغ موظف الدولة الإسلامية بعدما تبادلا إبتسامة الرضا على موقف كل منهما إتجاه الآخر!

ومع قول موظف الجباية التابع للدولة الإسلامية ودعائه لنا (انطلقوا برعاية الله وحفظه) انطلق بنا السائق في طريق لا أكاد اُبصر نهاية له من شدة إستقامته..

كانت خيوط الشمس حينذاك تغزل سمفونية المغيب الذي طالما افتقدته منذ سنين في بلاد لا تأتي فيها الشمس إلا في بعض أيام الصيف، حينما تغزوها كزائر خفيف الظل سرعان ما يغادر قبل أن يسعدنا صحبة بالجلوس..!

يا لمنظر الغروب الرائع الجميل الذي أشهده لأول مرة من أرض الخلافة الإسلامية.. لا أعرف أيهما أضاف للثاني سر ذلك الجمال، الخلافة وأرضها، أم الغروب ومنظره، ذلك التمازج المكاني الزماني جعلني استحضر تلك الأيام التي كنت أحرص فيها في صباي على زيارة ذلك المرتفع المطل على نهر الفرات، في مدينتي الفائقة الروعة والجمال (بروانة) لأشهد، وبشكل يومي، منظر مغيب الشمس من الجهة الأخرى، حيث يضيف نهر الفرات الذي يفصل بيننا لذلك المشهد السرمدي حلاوة وعذوبة وجمال أخاذ، لكن تلك الحلاوة والعذوبة والجمال وجدتها تذوب في ذلك المنظر الذي كانت ترقبه عيناي لعدة كيلومترات، وأنا أسير في أول طريق اسلكه بأرض الخلافة، فقضى ذلك المشهد على ما تبقى من ذكريات الصبا، بعدما خطفها وأنساني إياها بلا رحمة!

كانت فرحتي عارمة، ومن شدتها وددت لو إنني أنشد ما كنا نردده في زمن الطفولة في زفات الأعراس وفي السفرات المدرسية (يا سائقنة دوس دوس الله ينطيك العروس) في خطابٍ طفولي حينها لسائق السيارة بالإسراع أكثر لمسابقة بقية السيارات كي تكون سيارتنا في المقدمة لننال شرف التباهي بإننا نستقل السيارة الأفضل، ونمتلك السائق الأمهر، داعين له الله أن يرزقه العروس، حتى لو كان متزوجاً، إهزوجة سرعان ما تأتي اُكلها سريعاً، وسط حماسة وفرحة وإبتسامة السائق التي كنا نلحظها من مرآته الأمامية العاكسة، وهو يجتاز السيارات المتنافسة على السير خلف سيارة العريسين كسير الأفعى في الفلا..!

كان الشوق يحدوني للوصول إلى أرض الخلافة، فالوصول إلى الموصل كان بمثابة أمنية يخاطب صاحبها رب العزّة بالقول:

اللهم حقق لي أمنيتي، وبعدها أقبضني بسلام، وتلك كانت أمنيتي، الوصول إلى أرض الخلافة و(موصلها)، وبعدها ليقبض الله روحي بسلام!

سارت بنا السيارة، وأول ما وقعت عليه عيناي في طريقنا مناظر لبقايا آليات متفحمة للجيش الشيعي وللبيشمركة الكردية، متناثرة على جانبي الطرق، تروي قصص وبطولات خاضها رجال الخلافة وهم يفتكون بجيشٍ ومليشياتٍ، هي الأكثر دموية على وجه هذه الأرض، بعد الجيش الأميركي الذي فتك بأراضينا الإسلامية، وبلدان أخرى خارج منظومتنا الإسلامية، جيش شيعي ومليشيات كردية هي الأكثر إستهلاكاً للسلاح في العالم اليوم، سلاح لا يصوب إلا بإتجاه أبناء الإسلام من أهل السُنّة والجماعة، وصوب السماء حينما يلعب المنتخب العراقي، أو تلعب فرق الدوري الكردية مبارياتهم الكروية، أو حين سماعهم نبأ نجاح صفقات تبادل الأسرى مع الدولة الإسلامية، أو حين مواسم ختان الأطفال، أو في زفات الأعراس الشيعية والكردية، بعدما تناسى أهل السُنّة والجماعة في بلاد الرافدين مواسم أفراحهم بعدما غرقوا في بحور من الدم على أيدي قاتليهم من جنوب العراق المجذوب، وشماله المجنون، تماماً مثلما يحدث لأهلنا في الشام على أيدي نصيرية النظام العلوي، وما يتعرض له أهلنا في (اليمن الحزين) على أيدي حوثة العصر!

98654343_small.jpg

نصف ساعة من السير ليس إلا حتى حل الظلام، واضعاً الليل أستاره على تلك المساحات الشاسعة المفتوحة، لكن نقاط الضياء منتشرة في كل صوب وإتجاه..!!

كيف يقال إذن، أن الكهرباء تم إعدامها في أراضي الدولة الإسلامية، وأن الظلام هو صديق ابنائها اليوم، بعدما استحوذت الحكومة الشيعية والكردية على كل ناتج الكهرباء المحلي والمستورد، كان هذا التساؤل هو إستفهامي الأول من السائق الذي كان يحاول التخلص من عثرات الشارع وتكسراته عبر قيادة السيارة على طريقة الـ(جاكي)، والذي أجابني بأن البدائل موجودة، وأن المولدات الكهربائية قد تأقلم عليها الناس في ظل إنقطاع تام للتيار الكهربائي منذ أشهر خلت، كعقاب من الحكومة الشيعية والكردية على تحرير أراضي المسلمين من قبضتهم وخروجها من تحت سيطرتهم وسطوتهم..!

كانت السيارات تسير، وكإن هناك حياة في ليل الدولة الإسلامية، التي لا يعرف ليلها طعم الهدوء كما هو متعارف عليه، بل وكما هو مستقر في ذهني، أنا الأقرب إلى متابعة دقائق أمور الدولة الإسلامية وكبيرها، بحكم عملي الصحفي والإعلامي، فكيف يستقيم الهدوء مع صخب المعارك وأزيز الرصاص، وكيف يحل الظلام وسط نيران القصف ووهج القنابل وعصف المكان!!

لكن الهدوء فرض نفسه على جنبات الطرقات وحيث مدّ البصر، ولا يقطع اُنسته، أو يكسر هيبته، إلا صوت (هورن) السيارات ومنباهاتها حينما تمر بجانبنا، والتي يطلقها سائقيها، كتعبير عن إداء تحية السلام، وللرد عليها بذات طريقة الإداء من قبل بقية السائقين!

الأنوار تتراقص في الليل، متقاربة تارة، ومتباعدة تارة أخرى، حتى وصلنا إلى أولى المدن التي مررنا بها في طريقنا إلى الموصل الحدباء.. إنها الحويجة.. وما أدراك ما الحويجة.. الحويجة التي إن ذُكرت، ذُكرت الملاحم والبطولات والأمجاد.. إن ذُكرت الحويجة استحضرَ العدّو الأميركي مرارته فيها، الحويجة التي كانت طرقاتها تسقي الغازي موتاً في إثر موت، وهلاكاً يعقبه هلاك..!

إذن نحن الآن في حضرة الحويجة، التي سطّرت اسمها ونقشته بقوة في ذاكرة التاريخ والأيام، كيف لا، وهي التي أورثتنا قصص بطولات، وأرث رجال، تروي تفاصيل حكاياتها الجدات للأحفاد..!

كان ليل الحويجة صاخباً، لا تزال الحركة تشهد معظم انحائه، إن لم يكن كل جزء فيه، فالسوق يغص بالمتبضّعين، والمحال التجارية ما تزال فاتحة ذراعيها، والأرصفة هي الأخرى تغص بالبضائع، والناس يقفون على جوانب الطريق ملوحين للسيارات بحثاً عمن يُقلهم إلى بيوتاتهم، بعد إنتهاء يوم عمل طويل، أو إنتهاء فترة تبضعهم..!

الكباب الذي تنبعث رائحته من المطاعم، كعطر فوّاح، ترك أثره على معدتي، التي راحت عصافيرها تزقزق، كما يقول أهلنا في مصر.. يا الله، كم اشتقت إلى كباب أهلي، وددت لو أن السائق توقف أمام إحدى هذه المطاعم لأتناول اربعة، بل اربعون، بل اربعمائة (شيش) كباب، ولا أظنني اشبع، فكيف تعوض مثل هذه الكمية البسيطة سنين غربة اُجبرت عليها، غربة انهكتني وكسرت ظهري، غربة حرمتني أجمل أيام عمري على أرضي وبين أهلي..!

لعنت حينها أميركا، ولعنت الشيعة، ومعهم صهاينة الكرد، ولعنت كل دول الإستعمار والإستكبار العالمي، لعنت إيران عدوتنا منذ الأزل، والتي تمنى سيدنا عمر ابن الخطاب، رضوان الله تعالى عنه، رغم أنف من يَسبّه ويشتّمه ويلعنه، تمنى لو أن بيننا وبين هذه المجوسية جبلاً من نار، ولم ولن انسى لعن خونة أهل السُنّة والجماعة ،من الصحوات الخسيسة المحسوبة عليهم، ومن عارات السياسة ممن يدّعون تمثيلنا، وكيف لي أن أنسى كذلك لعنات تتلوها لعنات، هي نصيب حكام الدياثة، الذين سلّمونا لقمة سائغة للشيعة والكرد والنصيرية والحوثة، ومن قبلهم لأميركا، لعنها الله، وكسر صنمها!

كانت المحال التجارية تزينها أنواع المنتجات الغذائية والخضروات وأنواع من الفاكهة المعلقة التي تمنيت لو أني تناولت شيئاً منها، خصوصاً إنني كنت صائماً، كون يومي كان خميساً، ولم أجد ما اُفطر عليه، نتيجة تسابق الأحداث التي شدتني في أراضي الدولة الإسلامية، فأنستني حتى جوع الصيام وعطشه، بل كنت أرفض حتى الطلب من السائق التوقف لشراء الطعام من الطريق كي لا اتأخر عن الوصول إلى سيدة المدن، ولؤلؤة تاج وقار بلاد الرافدين، أم الربيعين، الموصل الأبية..!

كان المرور في أول مدن الدولة الإسلامية المحررة هو بمثابة إعلان حرب على كل تلك الأكاذيب التي كان الإعلام الفاجر يحاول التكتم عليها، ويزيّف حقيقتها، ويسوّقها حول طبيعة الأوضاع في مدن أرض الخلافة، وهو بذات الوقت كان عتب شديد اللهجة على إعلام دولة الخلافة الإسلامية الذي إنشغل بالمعارك والوقائع الحربية، عابراً من فوق أهمية كشف حقيقة الأوضاع المعيشية والأمنية التي يعيشها أبناء الإسلام في المناطق المحررة من سيطرة الشيعة والكرد والصحوات، إلا ما ندر من التقارير، كي تعرف الشعوب الأخرى، بل وكي يعرف أهالي بقية المدن التي تنتظر نصيبها من التحرير، أي خير عميم، وأمن كبير، وعيش رغيد ينتظرهم بعد التحرير، وضع يحاول العدو استغلال عدم تسليط الضوء عليه بكثافة من قبل دولة الخلافة الإسلامية ليسوق الأكاذيب، ويروج الدّعايات المغرضة الكاذبة، لتشويه واقع الحال الذي تعيشه مدن الدولة الإسلامية المحررة، وضع يستغله أعداء الإسلام ليوهموا الرأي العام أولاً، ولخداع أبناء الإسلام الذين لا يزالون يقبعون تحت سيطرة وحكم الطغاة في العراق وفي بقية الأمصار ثانياً، في أن الوضع الإنساني صعب للغاية، وأن الناس تعيش في ضائقة كبرى، وأن الجميع فرّ من تلك المدن التي هي تحت حكم الخلافة إلى حيث المناطق التي تخضع لسيطرتهم، هرباً من الجوع، والقحط، وانعدام الأمن، وهو ما جانبته تماماً الوقائع، ونفته الحقائق التي لمستها في مروري بأول المدن المحررة التي كانت في طريقي، وهي مدينة الحويجة، التي كشفت لي عن أمور زادت من مسؤوليتي في كشفها للعالم، حتى لا يظن بعض المخدوعين أن كلام الإعلام حقيقة، فما وجدته في هذه المدينة جعلني أتمنى العيش في جنة الحويجة التي يصورها الإعلام المحلي والعربي والعالمي على إنها الجحيم، فيا لجمال ذلك الجحيم الحويجي، إن كان جحيماً كما يدّعي الشيعة والكرد والأعراب، وأسيادهم!

خرجنا من الحويجة، إذ تأخرنا فيها قليلاً من شدة الزحام، بعدما امتلئت طرقاتها بأنواع السيارات التي اجهل موديلات وأنواع بعضها، بعدما تركتُ يوماً سيارة (الأوبل) ومشتقاتها هي سيدة الشارع، إذ تربعت على عرشه لسنين طوال، حتى نالت تسمية (همر المجاهدين) في معارك وصولات وجولات اُسود الجهاد في مدن أرض الفراتين، وبالكاد تمكّنا من سلك الطريق العام الذي من المفترض أن ياخذنا إلى مدينة (الگيارة)، ومنها هناك إلى حيث أرض المُنى!

عند آخر تقاطع يخرج من مدينة الحويجة، وحيث يلتقي هناك ثلاثة شوارع، استوقفتنا نقطة تفتيش كان افرادها يرتدون الزي الإسلامي، أو ما يسمى بـ(القندهاري)، اللباس الرسمي لجند الدولة الإسلامية، وكانوا يستوقفون السيارات التي تخرج من مدينة الحويجة فقط، ولم ألحظ وجود أحد منهم على طريق الدخول إلى المدينة، ربما لإن تركيزاً أكثر يجري على هوية المتوجهين إلى بقية مدن الخلافة مروراً بالحويجة، أكثر من الخارجين من أراضي الدولة الإسلامية بإتجاه الحويجة، على إعتبار أن الحويجة هي مدينة حدودية بالنسبة لدولة الخلافة الإسلامية وولاياتها، والداخل إليها ليس كالمغادر منها!

إقترب من الباب أحد الرجال، كان متوسط الطول، يضع عوينات طبية، ملتحٍ، لم أرَ على وجهه إبتسامة كذاك الذي رأيته في أول بوابات دولة الخلافة، بخلاف الهدوء الغريب الذي كان عليه..!

سألني قبل غيري، بحكم جلوسي على مقربة من الباب الجانبي الذي يُفتح بطريقة الـ(سلايد):

إلى أن الوجهة، بإذن الله؟!

إلى الموصل، إن شاء الله.. تلك كانت إجابتي!

فرد عليّ:

حياكم الله!

ثم نظر إلى الشابين الجالسين بجانبي فطلب منهما إبراز هويتيهما، فأخرجا له هوية الأحوال المدنية، أو ما تسمى في العراق بـ(الجنسية)، فتفحصهن، قبل أن يعيد تسليمهن إليهما..!

ظننت حينها إنه استثناني من المطالبة بهويتي، لكنه وجه إليّ كلامه بعد ذاك، مخاطباً إياي بالقول:

وأنت يا حاج!؟

حينها سلمت له جواز سفري، والذي كنت قد اخرجته من جيبي ووضعته في يدي حتى قبل أن يفتح رجل الدولة الإسلامية باب السيارة حينما استوقفنا، ولا أعرف صراحةً ما سبب إستعجالي إخراج هويتي وجواز سفري بهذه السرعة، وقبل أن يسألني حتى، ربما من ترسبات الماضي البغيض الذي يوجب علينا الركوع والسجود للشيعي والكردي، وربهما الأميركي، في نقاط تفتيشهم الوحشية، التي اعتدنا شرب الذل والهوان فيها، نحن أبناء السُنّة والجماعة، قبل أن تتحرر أراضينا اليوم..!

سألني بعدما أمسك جواز سفري وفتحه بين يديه:

هل أنت عراقي؟

اجبته بـ نعم!

ثم أضاف بعدما رفع النظارة عن عينيه قليلاً ليتمعن في الجواز أكثر، مستعيناً هذه المرة بمصباح يدوي كان يحمله بيده، وليس على ضوء السيارة الداخلي، كما فعل قبل ذاك حينما أراد التأكد من هويات من سبقوني.. ثم كرر سؤالي:

أين وجهتك؟!

ولأن وجهتي لم تكن محددة بمدينة بعينها، أو بولاية دون غيرها، كانت إجابتي على تساؤله بقولي:

وجهتي أرض الخلافة!

ففهم من إجابتي إنني إنما جئت إليها مهاجراً، أو هكذا ظننت، خصوصاً بعدما رد عليّ بالقول:

قد وصلت!

ثم اعقب ذلك بسؤال، في وقت كان لا يزال يستمر في تفحص جواز سفري:

ماذا تعمل؟!

أجبته على الفور، ودون تردد:

صحفي وإعلامي!

وهنا رفع عينيه بإتجاهي.. ثم تراجع بضع خطوات إلى الوراء، وجواز سفري في يده، ليمسك جهاز الراديو بيده ويبدأ يتحدث مع شخص آخر قائلاً له:

صلني بالشيخ.. بعدها بلحظات تحدث مع شخص آخر بشأني قائلاً له:

هناك صحفي جاء من الخارج ينوي التوجه إلى الموصل.. مع إنني ذكرت له أن وجهتي أرض الخلافة، لكنه اعتمد على وجهة جميع ركاب السيارة إلى الموصل على ما أظن، ليحدد هو بدوره وجهتي نحوها، ولم يخطئ.. ثم أضاف:

كيف نتصرف، وما هو الموقف من الصحفيين؟!

جاءت الإجابة من ذلك الشخص الذي ناداه بـ(الشيخ) بوجوب إنتظار مجيئه شخصياً إلى نقطة التفتيش، وهو ما دعا رجل الخلافة الذي استوقفنا أن يطلب من سائق السيارة بالتوقف إلى جانب الطريق، ريثما يصل المسؤول الأمني عن نقطة التفتيش!

ركن السائق السيارة على بُعد أمتار عدة من جانب الطريق، وأوقف السيارة، ثم أطفئ محركها!

كان صوت رجل الدولة الإسلامية وحديث (الشيخ) على مسمع مني، ومن جميع ركاب السيارة، فأخذ بعض الركاب يتهامسون، في حين علا صوت تلك السيدة، التي كانت تجلس خلفي، قائلة لي بصوت مرتجف:

ولدي، لماذا اخبرتهم بإنك صحفي، سيأخذونك الآن!! قالتها بلهجة بغدادية صرف ( يمة ليش كتلهم أتة صحفي، هسة ياخذونك)!

كانت تلك السيدة ترتعد من شدة الخوف، وكانت تردد (يمة يحرسك الرحمن) و( سور سليمان) وغيرها من الأدعية التي تتردد على لسان كبيرات السن، بغض النظر عن شرعيتها من عدمه، ثم أخذت تهمهم بقراءة آيات من القرآن الكريم من شدة خوفها عليّ، خصوصاً أن الأم العراقية ليست كسائر الأمهات، فأغلب أمهات بلاد الرافدين عُرفن بفرط عاطفتهن حتى على أبناء غيرهن.. وهنا ما كان مني إلا أن اُطمّئنها، وأنا اترجل من مكاني إلى خارج السيارة، بأن لا شيء يدعو للخوف، وبأنهم سيتأكدون من الاسم، ثم نواصل طريقنا، بمشيئة الله.. لكن السيدة أبقت على لومها لي، وبذات الوقت على ادعيتها التي لم تنقطع، فيما واصلت المسير بدوري نحو رجل الدولة الإسلامية الذي قطع الطريق بإتجاه غرفة صغيرة تسمى عند أهل العراق بالـ (كابينة) وضعت عند نهاية الجزرة الوسطية عند حافة التقاطع، فيما بقي رجل آخر يستوقف السيارات الخارجة من المدينة، والتي لا يعرف هوية أو وجوه أصحابها، في وقت كان يكتفي برد السلام على بعض أصحاب السيارات، ممن كان يعرفهم، إذ يرد عليهم منادياً إياهم باسمائهم، ما ترك إنطباعاً لديّ أنه من أبناء المدينة نفسها..!

كان يجلس عند باب تلك الغرفة، (الكابينة) الصغيرة، التابعة لنقطة التفتيش ثلاثة رجال، ركنوا أسلحتهم بجانبهم وهم يتناولون طعام العشاء في ظلمة لا تخفف من شدة وطئتها الحالكة إلا أنوار السيارات القادمة من كلا الإتجاهات الثلاث، ما منعني من معرفة ماكانوا يتناولونه، لكني ميّزت الوعاء الذي كان يحوي الطعام، إذ كان (منسف) صغير، ما جعلني اُرجح الرز كطعام لهم، خصوصاً إننا في العراق من عادتنا تناول الطعام في مناسف عندما نكون في مجاميع، صغيرة كانت أو كبيرة!

قال لي أحدهم:

تفضل معنا!

شكرته، ثم توقفت بجانب الرجل الذي كان يمسك بجواز سفري، حيث كان يقف على مقربة من بقية زملائه، والذي خاطبته بالقول:

أنا الإعلامي والكاتب الصحفي (حسين المعاضيدي) يا حاج، فهل من مشكلة في الأمر!؟

فرد عليّ بغياب إبتسامته وبهدوئه الذي لم يفارقه:

سيأتي الشيخ الآن أخي، وهو من سيتحدث إليك..!

اكتفيت بكلامه هذا، ولم أواصل الحديث معه، لأني شعرت أن الأمر لم يعد بيده، بل بيد من سيأتي لمقابلتي، فهو من سيبُتُ في أمر الصحفيين من أمثالي..!

حينذاك داهمني شعور أن هذه الليلة ستطول على غير العادة معي، وأخذت أفكر في كيفية مواصلة مسيري نحو الموصل، في حال تأخر وصول ذلك (الشيخ) واضطر سائق السيارة لمواصلة رحلته نحو الموصل مع ركابه دوني، فمن غير المنطقي أو المقبول مني أن اجعلهم يتأخرون لساعات في حال تأخر وصول الشيخ فترة طويلة..!

كنت أهم بالتوجه إلى سائق السيارة لأطلب منه إنزال حقيبتي وإكمال رحلتهم، وهو ما أخبرت به رجل الدولة الإسلامية الذي كان لا يزال ممسكاً بجواز سفري بيده، لكنه طلب مني التأني لأن الشيخ لن يطول وصوله، وقبل أن يختمَ عبارته توقفت سيارة بيكب، أو ما تسمى عند أهل العراق بـ(دبل قمارة)، في الجانب الآخر من الشارع، على مقربة من سيارة الأجرة الـ(كيا) التي كنا نستقلها، وكان يقود تلك السيارة رجل ملتحٍ، يقترب من العقد الرابع من العمر، نحيف الوجه قليلاً.. توجه إليه رجل نقطة التفتيش وسلّمه جواز سفري، ثم نادى عليّ (الشيخ)، وهو يجلس في السيارة:

تعال إلى هنا من فضلك يا حاج!

سرت إليه بخطوات سريعة، بعدما شعرت بإرتياح من طريقة مناداته لي، شعور قتل ذلك الخوف من التأخر عن رفاق رحلتي إلى الموصل.. سلّمت عليه، ومدّ لي يده للسلام، فزادني إطمئناناً..!

سألني أولاً، وهو يقرأ في جواز سفري:

في أي قناة تعمل!؟

أجبته، إجابة الواثق من نفسه، فمثل هذه المواقف تعلمت منها، بحكم عملي وطبيعته، أن من يخاف فيها يهلك:

أنا كاتب المجاهدين ومناصرهم حسين المعاضيدي!

استقر نظره على وجهي بعدما كان يتنقل ببصره، أول الأمر، ما بين جواز سفري ووجهي، ثم قال:

والله والنعم!

ثم واصلت:

تستطيع التأكد من شخصي عن طريق الإنترنت، فستجد فيه مقالاتي وكتاباتي مقرونة بصوري، فضلاً عن لقاءاتي المتلفزة!

فأجابني:

ما من داعٍ!

قالها بحماسة، رافقتها هزّة خفيفة برأسه، دون أن يخبرني إن كان قد عرفني أم لا.. ثم أردفها بالقول:

وإن شاء الله وين ناوي تروح.. ذكرها باللهجة العراقية، كتعبير عن الأستفسار عن وجهتي..!؟

قلت له:

الموصل، بإذن الله!

فقال: محروس بالله، توكل على الله..!

ثم خاطب مسؤول نقطة التفتيش الذي كان يقف بجانبي ويستمع لحديثنا:

دّعه يمر يا حاج، قبل أن يختم معي بالقول، وهو يسلّمني جواز سفري:

إن شئت البقاء معنا فمرحباً بك بين أهلك.. فتبسم قلبي قبل وجهي فأجبته، وباللهجة العراقية:

والله وعشرة نعم منك ومن وجهك الطيب.. لكني عزمت التوجه إلى الموصل.. فرد عليّ مُنهياً اللقاء بالقول:

إرشد (أبو علي) توصل بالسلامة.. و(أبو علي) هي الكُنية لمن يحمل اسم (حسين) في العراق، فكل (حسين) هو (أبو علي)، والعكس صحيح!

img_______________________________small.

عدت إلى السيارة بعد أن صافحته، يتبعني رجل الدولة الإسلامية، ذو العوينات الطبية نفسه، وما أن وصلت إلى السيارة حتى أخذ الجميع يهنئني على السلامة، وعلى رأسهم السيدة التي كانت خلفي، والتي وجدتها لا تزال مستمرة في الدعاء.. فخاطبتهم بالقول:

كان الأمر بسيطاً، تأكدوا من الاسم ليس إلا، فيما بقيت السيدة تلومني على إبلاغهم بحقيقة مهنتي..!

توقف جندي الدولة الإسلامية عند الباب، وقبل أن يغلقه أمسك بحافة الباب، ثم أخذ ينظر إليّ قبل أن يسألني:

يا أمي: لماذا لا ترتدي الحجاب الشرعي!؟

استغربت لسؤاله، فوضعت نظارتي الطبية على عيناي لأتأكد من أن نظره موجه نحوي، فتأكدت، فظننت لوهلة أن خطباً ما أصاب نظارته، أو أن مشكلة ألمت ببصره، بعدما تأكدت من سلامة بصري ونظارتي..!

أجبته مستغرباً: عفواً، أتتحدث معي!؟

فرد عليّ، وهو لا يزال غارقاً في بحر هدوئه الغريب، مع إبتسامة خفيفة ظهرت على قسمات وجهه لأول مرة، فهمت منها إنها إبتسامة إعتذار، فقال:

أتحدث مع الأخت التي تجلس خلفك!

قالت السيدة: أتقصدني أنا يا ولدي!؟

أجابها:

نعم أنتِ، حفظك الله! ثم كرر السؤال عليها، دون أن يشيح بعينيه عني!

فردت عليه، مؤكدة له في ذات الوقت:

أنا محجبة يا ابني!!

فقال لها: أتحدث عن الحجاب الشرعي الذي يغطي الوجه، (الخمار) يا أمي!

فردت عليه بصيغة اللوم:

أنا إمرأة كبيرة في السن، وأنت مثل حفيدي يا ابني!

فرد عليها بأدبٍ جّم:

إنه شرع الله يا أمي..!

ثم أضاف: هل هذا الذي بجانبك أبنك.. قالها وهو مستمر في التحديق نحوي!؟

فردت عليه، بعدما خفّضت من نبرة صوتها قليلاً:

لا والله يا ولدي، فأنا لوحدي، لكن معي هؤلاء الذين في السيارة، وجميعهم بمثابة إخوتي!؟

صمت لبرهة، وكأنه يستوعب صدمة الجواب، قبل أن يعود ليسألها مجدداً عن وجهتها والمدينة التي جاءت منها:

فأكدت له أنها (موصلّية)، وإنها تنقلت بالطائرة لأكثر من مكان، وأنها استقلت سيارتين قبل سيارة الأجرة تلك، والتي كنا نجلس فيها في طريقنا إلى الموصل، وإنها في الطريق منذ ثلاثة أيام!

فأنّبها هنا بشدة على خروجها بلا محرم، ثم سألها إن كان زوجها حياً أم لا، فأكدت له إنه على قيد الحياة، فقال لها:

وكيف يسمح لك زوجك بالخروج لوحدك والتنقل هكذا في ظل هذه الظروف التي يخشى فيها الرجل على نفسه، كيف له أن يفعل، ألا يتقِ الله فيك؟! قالها بغضب هكذا، وبحرقة!

أجابته أن زوجها مريض ولا يقوى على السفر، وأنها اضطرت إلى السفر نتيجة مرضها هي الأخرى، وحاجتها لرؤية الأطباء!

سألها كذلك إن كان بيتها في الموصل أم في مدينة أخرى، فأشارت له أن سكناها حالياً هو في العاصمة بغداد، حيث تركت زوجها هناك!

ثم واصل حديثه معها، حديث يحمل بين طياته ألم، أكثر مما هو إستغراب، ألم على واقع حال أُمة باتت تسير فيه المرأة المسلمة ليل نهار، وتقطع مئات، بل آلاف الأميال، دون أن يكون برفقتها محرم، أو تعير لهذا الجانب أي اعتبار!

قال لها بعدما خاطبها هذه المرة بـ(يا أخيتي):

إن كان زوجك لا يخاف عليك، فنحن نخاف عليك، وإن كان زوجك لا يهتم لأمرك، وتركك تخرجين لوحدك بلا محرم، فنحن يهمّنا أمرك، ولا يحق لنا تركك تسيرين بلا محرم، لكن ما عسانا نقول إلا (لا حول ولا قوة إلا بالله).. ثم واصل:

والله لن ينصلح حال الأمة إلا بصلاحنا نحن.. والإثم جلّه في رقبة زوجك، الذي سمح لك بالخروج بلا محرم، وفي هذا الظرف العصيب جداً الذي نعيشه، غفر الله لك، ولزوجك!!

سألها في نهاية الأمر عن سبب توجهها إلى نينوى دون غيرها.. فأكدت له إنها في زيارة لأبنتها التي تسكن الموصل.. فقال لها، وعيناه صوب عيناي أنا طوال الوقت:

قلتِ إنكِ خرجتِ للعلاج، والأن تؤكدين أن زيارة ابنتك من أخرجتك، قالها بصيغة (ما ينبغي لنا أن نكذب ونحن أهل إسلام).. ودون ان ينتظر سماع الجواب، أغلق الباب بعدما قال للسائق، ولنا، بصيغة الدعاء:

توصلون بالسلامة!

وقبل أن تتحرك عجلات السيارة في رحلتنا صوب مدينة الأنبياء، أدركت إنني في الزمان والمكان الصحيحين، زمان ترقبنا حلوله طويلاً، زمان نجد فيه من يحرص على أنفسنا وعلى أعراضنا، أكثر من حرصنا نحن على أنفسنا وعلى أعراضنا، ومكان بحثنا عنه كثيراً كثيراً في زوايا وخفايا الوجود، يحكمنا على اديمه رجال أشداء على الكفار، رحماء بينهم، رجال يخافون الله، ويقيمون شرعه فينا!

 

حسين المعاضيدي

******************************

 هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي

768987_small.jpg
الحلقة الثالثة
calhnpeukaanrdy_jpg_large_small.jpg

سارت بنا السيارة، بعدما غادرنا مدينة الحويجة الشماء بإتجاه الحصن المنيع لدولة الإسلام، الموصل العصية، وكأن السائق، وهو يقود سيارته، يحفظ الطريق ومطباته عن ظهر قلب، طريق امتد تحت جنح ظلام لا يخفف من وطئة سواده سوى تلك الأنوار المتقطعة لمصابيح أنارت بيوتات على جانبي الطريق، والتي تزداد غزارتها كلما اقتربنا من المدن ذات الكثافة السكانية..!

كان الشاب الذي برفقتنا، والذي تعرض إلى المسائلة في أول سيطرات ونقاط تفتيش دولة الخلافة الإسلامية، يمتلك خطاً هاتفياً، يطلق عليه (شبكة أثير) الشيعية، والتي كانت تعمل بتقطع، بعدما توقفت بشكل تام شبكة (آسيا سيل)، التي تعود ملكيتها إلى الأكراد، في ظل غياب أي شبكة للأتصالات تعود ملكيتها للسُنّة العرب، وكانت السيدة التي برفقتنا تستأذن الشاب بين الفينة والإخرى لإجراء مكالمات بعد توقف هاتفها عن العمل، وأحياناً تحاول إرسال رسائل إلى عائلتها في بغداد تبلغها بإنها بخير، وإنها في الطريق إلى الموصل، وأن كل الأمور تسير على خير ما يرام، فيما راح الشاب يخاطبنا بإن هاتفه في خدمة الجميع!

مررنا بنقطة تفتيش جديدة، توقف السائق خلف سيارة كانت تسبقنا ببضع مئات من الأمتار قبل توقفها في نقطة التفتيش التابعة لرجال الدولة الإسلامية، حيث لم يعد يفصلنا عنها سوى ثلاثة إلى اربعة أمتار، وحينما تجاوزت نقطة التفتيش، بعد أقل من دقيقة من توقفها، جاءنا دور المرور..

توقف السائق أمام رجل الخلافة، الذي كان كاشف الوجه، مُلتحٍ، في نهاية العشرينات من العمر، اطلق علينا السلام أولاً، ثم تبسّم مع السائق، وراح يمازحه قليلاً..!

كانت لكنته من تلك المناطق (شمال صلاح الدين، أو جنوب الموصل)، إنها لهجة مميزة، وجميلة في نفس الوقت، هي أقرب للبدو منها للحضر، ما اجمل لغة البدو التي كان أبي يتحدث بها، كيف لا، وأبي بدوي حد النخاع، رعى الأبل حتى بلغ اشده، ثم احترف الزراعة، قبل أن تجبرتنا ظروف الحياة، وذهاب أراضينا التي أغرقتها مياه سد حديثة (سد القادسية) إلى السكن والإقامة في المدن، والتي صعب على أبي التأقلم عليها، فبقي يتحدث بلسانه البدوي، هذا الذي اعشقه وأحاول التحدث به مع أبنائي رغم صغر سنهم.. بل إنني أتذكر كيف أن زملائي في مهنة الصحافة ببغداد كانوا يلقبوني بـ (البدوي) وذلك لطبيعة وتركيبة شخصيتي، التي نأت بنفسها عن عالم التحضر والتمدن الزائف، رغم عملي في بلاط صاحبة الجلالة حيث سلطة الإعلام الرابعة، والتي ما عادت ذات جلالة، تماماً مثلما ما عادت سلطة رابعة، بل مسخرة أولى وثانية وثالثة فرابعة، في ظل حكم الشيعة، ونفاق الكرد، وعهر حكام الخليج وبقية بيادق أميركا وإسرائيل وإيران!

كان رجل نقطة التفتيش يتحدث إلى السائق، فيما كنت أنا غارقاً في تأمل جمال مخارج حروفه وكلماته ولفظه.. قال للسائق:

ما هوية زبائنك من الركاب؟!

فرد عليه السائق، الذي ينتمي لذات المناطق كما تبين من لهجته في الحديث:

إنهم يتوزعون بين موظفين وطلبة، دون أن يتم التطرق إلى وجود نساء بيننا..

فرد رجل نقطة التفتيش:

وهل بينهم (جنود مرتدين)!؟

فأجابه السائق بإنه يستطيع التأكد بنفسه، لكنه أكد له إننا مررنا بأكثر من نقطة تفتيش، وقد تم التأكد من هويات الركاب جميعاً!

فأجاب رجل الدولة الإسلامية ممازحاً الرجل الكبير في السن الجالس بجوار السائق:

لكني أظنكم جميعاً جنود، وهذا العم في (الصدر) هو قائد المجموعة، و(الصدر) عندنا في العراق هو من يجلس بجانب السائق، متصدراً الركاب..

فضحك الرجل الخمسيني أو الستيني الجالس بجوار السائق، ورد عليه:

أعوذ بالله، لست إلا اُستاذاً جامعياً..! قالها ثم اطلق ضحكة طويلة، ضحك لها الجميع، فيما لا زلت أنا اتأمل طريقة حديث رجل الدولة الإسلامية، والحق أقول لا أعرف إن كانت لهجته من سحرتني، أم عذوبة تعامله مع الناس هي من أبهرتني!!

أنتهى الوقوف أمام نقطة التفتيش بضحكات وأبتسامات من الجميع، وربما هناك من كانت ضحكاته لا تخرج من كل قلبه، حيث شعرت أن هناك البعض لا تزال مخاوفه من نقاط تفتيش وسيطرات الدولة الإسلامية حاضرة، وخصوصاً السيدة البغدادية الموصلّية الأصل، والتي تذمرت من كثرة نقاط التفتيش على الطريق، مع إنها لا تمثل شيئاً أمام عددها أيام ما قبل التحرير المبارك.. شعرت بدوري بالإستفزاز من كلام السيدة، فتدخلت هذه المرة وبشكل عصبي..!

كانت السيدة تجلس خلفي، فأخذت اتحدث بصوت عالٍ، وأقول ساخراً، نعم، من حقنا التذمر هكذا، فقد كان الشيعة يستقبلوننا بالورود في سيطراتهم ونقاط تفتيشهم، وكانوا لا يبصقون في وجوهنا، ولا يهينوننا، ولا يدوسون على رؤوسنا بأحذيتهم، بعدما تمكنوا منا، ولم يغتصبوا نسائنا، ولم يقتلوا أولادنا، ولم ييتموا أطفالنا..!

نعم من حقنا التذمر من عدد السيطرات ونقاط التفتيش، التي ما وجدت إلا لحمايتنا، فنحن لا نرضى بمن يحمينا ويخاف على أعراضنا أكثر منا، ويدافع عنا بشراسة، نعم نحن لا نستسيغ أن نرى من يسهر الليل كي نعيش بأمن وأمان، نعم لإننا لا نرضى إلا بالذل، وبالمهانة، وبالعيش في كنف زنادقة الشيعة وملحدي الكُرد في ذل وإهانة.. لنتقِ الله جميعاً، فهؤلاء ما خرجوا إلا حينما اُنتهكت أعراضنا، وسُبيت نسائنا، وأبيدت مدننا، وتسلط المجوس، ومن حالفهم، على رقابنا، فأستعبدوا حتى الأجنة في بطون الأمهات!

دبّ الصمت بعد كلماتي هذه في السيارة، وخشي الجميع الرد، ربما لأنهم ظنوا إنني، وبطريقة حديثي تلك، أحد رجال الدولة الإسلامية، شعرت بهذا من طريقة صمتهم، فللصمت حديث لا يفقه لغته أياً كان..!

واصلت الحديث دون توقف، فلقد وجدتها فرصة لأخبرهم ببعض ما كان يجري لأهل السُنّة والجماعة في معتقلات الشيعة والكرد وأسيادهم الأميركان.. وكثير منهم يعلمون ويدركون..

قلت:

يا من تتذمرون، هل سمعتم بما حدث لرجالنا ولنسائنا في المعتقلات، سأحكي لكم موقفاً واحداً، رأيته بنفسي، لتعرفوا لماذا نبصق على المجوس، ولماذا هم يحاربوننا ولماذا يريدون إعادة احتلال أراضينا المحررة، لقد كانوا في المعتقلات يحضرون المرأة ذات الأربعين عاماً، مع طفلتها ذات الأحد عشر ربيعاً، ثم يخيّرون السيدة (السُنّية) بين إغتصابها، أو إغتصاب طفلتها، وكانت المسكينة، وبعد بكاء مرّ، تفضل أن يتم إغتصابها على حساب إغتصاب طفلتها..!

كنت أتحدث، وكان صوتي يرتفع شيئاً فشيئاً، وكنت أومئ بيداي شمالاً ويميناً، رغم أن أحداً لم يكن يراني، بسبب الظلام الذي كنا نجلس في عتمته، اللهم إلا من كان يجلس بجانبي حيث كانت يداي تمسهم دون دراية مني..

كنت اُردد:

هل تعلمون، يا من لا تقبلون إلا بحكم مليشيات وجيش الشيعة وبيشمركة الكرد، أن المرأة السُنّية هذه حينما اختارت أن يتم إغتصابها مقابل عدم إغتصاب طفلتها ماذا فعلوا معها؟!! لقد أقدموا على إغتصاب الطفلة أولاً، ثم تلا ذلك إغتصاب الأم نفسها، أربعة كلاب اميركية متوحشة تناوبوا على إغتصاب الأم وطفلتها، وهل تعلمون من كان يمسك بالأم وطفلتها حين الإغتصاب!! مجموعة من شرطة وجيش الشيعة ممن كانوا يعينون الأميركان ويساعدونهم على إذلال وتركيع أهل السُنّة والجماعة..

كل هذا يفعلوه أمامنا وأمام أعيننا ليقولوا لنا بعد ذلك: من لا يعترف بالتهم المنسوبة إليه سنعتقل عائلته ونحضرها هنا ونفعل بها ما فعلنا بهذه (العاهرة) كما يسمونها، وحاشاها..!

كان بدني يقشعر وأنا أتذكر ذلك الموقف الذي لا يغادر مخيلتي أبداً، وكيف له أن يُغادرني وهو ينام ويعشعش ويتنفس ويأكل ويشرب معي، ينام في فراشي، ويعشعش في عقلي، يتنفسني قيحاً، ويُؤكلني زقوماً، ويُشربني سماً..!

إنه الحقد الفارسي المجوسي الأعمى على أمة الإسلام، اُمة السُنّة والجماعة، لهذا يسعون إلى إستعبادنا، أو إبادتنا بأحسن الأحوال، بمساعدة ومشاركة القريب والبعيد، ولأجل ذلك لن يتخلوا عن نواياهم تلك حتى يحققوها، أو يبادوا!!

صمت الجميع، وخرست الألسن، ومنها لساني الذي انعقد بعد ذلك، بعدما اطلقت لدموعي العنان وسط ظلام المكان وضجيج محرك السيارة، الذي كان متأثراً بنوعية البنزين المصنع محلياً في المصافي البدائية التي بدأت تكتظ بها مدن الدولة الإسلامية، بعدما اتلف الشيعة والأكراد وطيران الغرب والخليج جميع المصافي التي تخضع لسيطرة دولة الخلافة عن طريق طيرانهم الذي لا يغادر سماء تلك المدن، ولكن فوق غيوم تقترب من القمر كما نراها نهاراً، وبإرتفاعات مجهولة ليلاً!

استمر الصمت هكذا حتى قطعه إشارة شاب، لم يبلغ العشرين من العمر، أومأ إلينا ونحن نقترب من جسر يرتفع بالطريق حتى يربطه بطريق آخر، توقف السائق وخاطبه الشاب، الذي كان يحمل بندقية ويضع لثاماً على وجهه، بالقول ( رحم الله والديك أخي، حينما تصل إلى نقاط التفتيش أنر مصابيح السيارة من الداخل قبل الوصول بقليل)، فاعتذر منه السائق وأخبره أنه يعرف بهذه الملاحظة، إلا أن النسيان هو السبب، مع إنني حَمّلتُ نفسي مسؤولية ذلك، بعدما فتحت جروحاً ربما تناسى بعضنا بعض مواجعها بحديثي عما كان يجري لأهل السُنّة والجماعة في معتقلات الأميركان والشيعة والبيشمركة..!

d8b5d984d98ad984_small.png

كنا نمر بجسور وأودية وتعرجات وتموجات أرى بعضها من مصابيح السيارة التي كانت تكشف لنا مساحة من الطريق في ذلك الظلام الدامس، في حين إنني كنت استكشف بعضها الآخر من صوت مرورنا فوقها أو بجانبها، أو من تمايل السيارة بنا يميناً وشمالاً..!

إقتربت الساعة من الثامنة في آخر ليلة من العام 2014م، ولا زلنا نسير في طريق لم اسلكه منذ سنين خلت، حينما كنت أتجول في ربوع تلك المناطق لأنقل حقيقة الخسائر الأميركية في صلاح الدين والموصل، وهو ذات الشيء الذي كنت افعله في الأنبار، يوم كنت أتعامل مع العديد من القنوات التلفزيونية المحلية والعربية والأجنبية، فبعض تلك التقارير كانت تذهب إلى قناة الرافدين، وبعضها الآخر أذهب به إلى قناة الشرقية والزوراء، ولاحقاً الرأي، وبعضها الآخر إلى قناة الجزيرة، وبعضها إلى شبكة الأنبي سي نيوز، ووكالة الأسوشيتدبرس والعديد من الجهات الإعلامية الأخرى، يوم كانت تحرص على نشر ما تتعرض له قوات الاحتلال من خسائر موجعة، أو تقوم ببث معاناة المناطق التي تخضع لسلطة المنطقة الخضراء وقادتها، سواء من البنتاغون أو من فيلق القدس الإيراني، ببركة السياسيين، الذي استبسلوا في تثبيت دعائم الاحتلال (الأميركي - الإيراني) لأرض الرافدين، قبل أن تتبدل مواقف بعض تلك الجهات الإعلامية والقنوات لتصبح مواقفها تباع وتشترى، وسياستها الإعلامية تخضع لمن يدفع أكثر!

كنت احفظ هذه المناطق وهذه المدن عن ظهر قلب، لكني الآن لا أعرفها، فلقد تركت سنوات الاحتلال الأميركي القاسية آثارها عليها، وليكمل مسيرة إنهاكها الاحتلال الشيعي الإيراني لها.. لم تكن آثار الاحتلال بادية لي نتيجة الظلام، لكني كنت اُحسها، فهي عندي بمثابة جسد وروح، تتألم أكثر من ألمنا، وتتوجع أكثر شدة من توجعنا، فهي تعاني كما نعاني، كيف لا، وهي قد اُغتصبت من قبل خنازير اميركا وكلاب إيران، تماماً مثلما تم إغتصاب أعراضنا على أيديهم، وهي جائعة حد الشبع، ومريضة بداء أنهكها مثلما أنهك المرض والجوع فلذات أكبادنا وأمهاتنا وأبائنا، هذه الأرض المعطاء انتخت اليوم وهي تنادي (واوجعاه)، فهب لتحريرها رجال، قال عنهم العالم كله إنهم وحوش بهيئة آدمية، وها أنا اليوم آتيهم، من آخر الدنيا، لأنقل للعالم حقيقتهم، وسأكون منصفاً، حتى لو وجدت عندهم من السوء، فأقسم بمن نصرنا في بدر يوم كنا أذلة، إنني سأتحدث به، وانطق واجهر به، ولن اخشاهم، أو اخشى غيرهم، ما دمت أفعل ذلك لله، ونصرة للحق، وكشفاً للواقع، وتبياناً للصدق الذي غيبه الإعلام وتجاهله، بل وشوهه!

واصلنا المسير، حتى بتنا على مشارف (الگيارة)، التي وصلناها اللحظة، نعم هذا مفرق طرقها، وهذا جسرها الذي يتفرع منه عدة جسور وطرق إلى مناطق أخرى، وهذا الجسر الذي قال عنه هذا الصباح مراسل قناة العربية (الإيرانية المجوسية) إنه بيد البيشمركة الكردية الآن، وأنه تم تحريره وإستعادته في معركة ضارية مع (د ا ع ش)، على حد وصف هذه القناة التابعة إلى (معس)، والمسمومة بِسُمّ إيراني، من ذاك الذي نُقّع به الخنجر الذي غُرس في ظهر سيدنا علي، رضي الله عنه وأرضاه، وهو ذات السم الذي غُمس به الخنجر الذي استقر في جنب سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب، محطم اُسطورة الجيش الكسروي الذي كان لا يقهر، أبا حفص الذي اطفأ عهده نار المجوس إلى الأبد، وسُمّ قناة العربية هو ذات السم اليهودي الذي وضع في طعام الرسول الأكرم محمد، صلى الله عليه وسلم، قبيل وفاته، بأبي وأمي هو!

ما هذا، الجسر يقف فوقه مجموعة من رجال الدولة الإسلامية، لكني سمعت هذا الصباح في نشرات الأخبار ذلك الذي اسميه إسطوانة الغاز، مراسل القناة التي صح فيها القول (العبرية)، المسمى (أحمد الحمداني) يقول أن البيشمركة اصبحت على مشارف الموصل، بعدما استعادت السيطرة على جسر الگيارة، بل والسيطرة على الگيارة ذاتها، بل وزاد على ذلك قولاً أن من يسيطر على ذلك الجسر إنما يسيطر على محافظات ثلاث: ديالى، وكركوك، ونينوى، وربما نسي محافظة صلاح الدين هي الأخرى، مع أن الجسر من الناحية الإستراتيجة لا يمثل شيئاً، كونه جسراً يربط مجموعة طرق، ولكل طريق من هذه الطرق طريق بديل، ما يجعل السيطرة عليه لا تقدم ولا تؤخر على أرض الواقع، أو في ميدان القتال شيئاً..!!

سألت رفيق رحلتي الشاب الجالس بجانبي ويدعى (حازم):

أوليس هذا هو الجسر الذي قالت عنه قناة العربية أنه بيد البيشمركة؟!

فرد عليّ بالأيجاب، وقال ألم اقل لك إنهم يكذبون، حيث كنا نتحدث في ذلك الصباح، حينما كنا نجلس على قارعة الطريق بإنتظار أن يتم السماح لنا بالعبور من مناطق سيطرة الشيعة والكرد إلى أراضي الخلافة الإسلامية، إذ كذّب صاحبي هذا الصباح تقارير قناة العربية واوصفاً إياها بـ(اليهودية)!

ولكن، وبالرغم من ذلك، ما قصة المحافظات الثلاث التي يتم السيطرة عليها بالسيطرة على هذا الجسر، وما قصة السيطرة عليه وهو لا يزال بيد رجال الخلافة الإسلامية، الذين يحكمون السيطرة عليه بقبضة حديدية.. هذه القصص الخرافية اترك الإجابة عليها لمراسل قناة العربية نفسه المدعو (أحمد الحمداني)، لعله يأتينا بالجواب الشافي من فوق فنادق أربيل التي يبث منها تقاريره عن ساحات معارك تبعد عنه مئات الكيلومترات، فيقيناً إنه، كما قناته، يعرف أكثر!!!

تجاوزنا (الگيارة) التي كان ليلها حياً، فباعة البنزين لا يزالون يفترشون الأرصفة الجانبية، والحال نفسه ينطبق على باعة الأطعمة والفاكهة، ومطعم هنا ومطعم هناك، لا يزالوا فاتحي أبوابهم للمسافرين، فيما كانت دوريات الدولة الإسلامية تنتشر، ليس في (الگيارة) فقط، بل على طول خط السفر، بعضها نراه، وبعضها على شكل كمائن متحركة أو ثابتة، تحسباً لأي طارئ!

بعبورنا لمدينة الكيارة بدأ العد العكسي لوصولنا لمدينة الرماح، موصل الجهاد، بل إننا بتنا على مشارفها، حيث أخذ الطريق يرتفع تارة وينخفض تارة أخرى، فتموجات الطريق تخبرك بإنك أمسيت الآن على مشارف الموصل، ولا حاجة بك لأن تسأل أأقتربنا أم لا يزال هناك طول في الطريق، فكما هو (الهوبر) دليل (الكمأ) لمن يعشق جني الكمأ من الصحاري والقفار، فإن تموجات الطريق دليل إقتراب الموصل منا، أو إقترابنا منها، لا فرق، ما دام سيجمعنا بها اللقاء بعد فراق وغياب، وها هي أولى تبشاير اللقاء، بوابتها التي تنتصب في أقصى جنوبها الشرقي شامخة في عزّ وثبات!

ابصرت بوابتها كاملة، رغم ظلام الليل، فإضواء السيارة تنير لنا ظلام المكان، وأي مكان، بوابة تعلوها راية العقاب بلونيها الأسود والأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله، راية دولة الخلافة الرسمي، راية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وراية الخلفاء من بعده، راية الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، شعور لا يوصف، وفرحة لا تتسع الدنيا بأكملها لها..!

توقفنا أمام جندي يرتدي بزة (قندهارية) سوداء، يكسو رأسه شعر كث طويل ولحية، وكإنها جزء من سواد ذلك الليل المدّلهم، وعيناه كانتا تتقلصان وتكبران بحسب شدة نور مركبتنا.. سلّم علينا بوجه بشوش، رغم ملامح التعب الذي كان بادياً على قسمات وجهه التي كانت تبرز وتختفي وسط الظلام والنور.. سألنا أولاً عن وجهتنا، والمدينة التي أتينا منها، ثم سألنا عن باقي نقاط التفتيش، وكيف هو حالهم، ثم سألنا عن طريقة التعامل معهم، فنطق الجميع، وكل بعبارة، فمنهم من قال ( بارك الله فيهم.. لم يقصروا)، ومنهم من قال (الله ينصرهم)، ومنهم من قال (والنعم منهم)، أما أنا فاكتفيت بالصمت، ولا أعرف سبباً لصمتي، لكني ربما أردت معرفة ما سيقوله عامة الناس عنهم في حضورهم والغياب!

ختم رجل بوابة الموصل كلامه بالقول: مرحباً بكم، وحياكم الله بين أهليكم، وكانت لكنته وهيأته تدل على إنه من أرض الحجاز بجزيرة العرب، تلك الأرض المباركة التي تغذي سوح الجهاد بقوافل من المجاهدين الأشداء، لله درّهم من اُسود جائعة تسعى لإعادة هيبة غابرة، وأمجاد أمة ضائعة!

أخذ المسافرون معي يحمدون الله على سلامة الوصول، وبدأوا في جمعِ إجرة السيارة.. وجمعُ إجرة السيارة يعني أن الرحلة باتت على مشارف الإنتهاء، ما يعني أنهم ضمنوا الوصول سالمين إلى ديارهم، مع أنه ما يزال هنالك عدة كيلومترات قبل الوصول إلى المدينة، قضيناها في جمع إجرة السيارة بهدف تسليمها للسائق، فقمت بدوري بإخراج مبلغ شخصين لدفعها عني وعن الشاب الذي كان برفقتي، فقد قضينا معاً عدة أيام في إنتظار أن يُفتح الطريق إلى أراضي الدولة الإسلامية قبل أن يتم السماح لنا بالعبور.. رفض صاحبي أن أدفع عنه إجرة السيارة وطلب أن يدفع هو بالمقابل عني وعنه، وهنا تدخل السائق محاولاً فض النزاع، فقال (لا تختلفوا، دعوها على حسابي)، فضحكنا ثم شكرناه، ثم أجبرت رفيق سفرتي على التنازل والقبول بمبدأ الدفع عنه، رغم إكثاره من قول: أنت لست من الموصل، وأنت ضيف علينا، وغيرها من العبارات التي توجب على أهل الدار، كما يقول، القيام بواجب الضيافة، لكنه اشترط عليّ للقبول بالدفع نيابة عنه أن اكون ضيفه الليلة، وأنام عنده في داره، مؤكداً لي أن عائلته ستكون مسرورة إن حللت عليهم ضيفاً، فمن عادة العرب عندنا إن حل ضيفاً في بيت حلّت معه البركة، كما يقال، لهذا تجد كثير من الناس يتسابقون على إستقبال الضيوف، ممن يعرفون أو لا يعرفون، طلباً للفوز بالبركة..!

تذكرت في نفسي ما كان يشاع عن أهل الموصل، ووصّمهم ظلماً وجوراً بالشح، فما كان من ذلك الشاب، وموقف السائق، وبقية الركاب الذين تعالت أصواتهم طالبين مني أن اكون ضيفاً عليهم يفند كل تلك الإتهامات، بل إن أحدهم قال لي إنه سيكون ضيفاً عند اقرباء له، وحبذا لو شاركته ضيافتهم لأنهم سيسعدون بذلك كثيراً.. شكرتهم جميعاً ثم وعدت ذلك الشاب المهندس (حازم) أن اكون ضيفه، إن قررت المبيت عند أحد..!

بدأ الركاب في النزول، حيث طلب أحد الركاب إنزاله في أول مدخل الموصل، ثم راح يودعنا وكإننا من عائلته، كانت اربع ساعات، إن لم تكن قد إقتربت من الخمس، تلك التي قضيناها في الطريق كفيلة أن تجعل منا عائلة واحدة، غريب ذلك، لكن هي ميزة العاطفة التي يمتاز بها قسم كبير من أبناء الرافدين، فبمجرد أن تستلطف شخصاً ما، أو تشعر بالراحة إتجاهه، حتى دون معرفتك به، فبأمكانك أن تأخذ ملابسه منه حينها إن شئت، ويكون مستعداً ليقف معك مهما كلف ذلك، دون أن ينتظر منك شيئاً بالمقابل، وقد زادت هذه العاطفة في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعدما بات أهل السُنّة والجماعة في العراق يتعرضون للإستهداف من أمم الأرض جميعها، ويشعرون بإنهم غرباء، فقربتنا (غربتنا) هذه من بعضنا كثيراً، وهذا ما لمسته في هذه الساعات التي قضيتها مع أبناء ديني في أول سيارة استقلها بأرض الخلافة الإسلامية!

وصلنا إلى وسط الموصل، كانت الكهرباء قد قُطعت عن عدة أحياء من تلك التي مررنا بها، لكن بعضها اُنير بواسطة المولدات الأهلية على ما يبدو، فقد لاحظت إقتصاداً في عدد المصابيح الخارجية للدور والعمارات، والحال نفسه ينطبق على مصابيح الشوارع التي قُطعت الكهرباء عن بعضها، فيما لا تزال الإنارة ترسم لوحة ليلية لشوارع أخرى..!

كانت السيارات تملئ الشوارع، وحركة الناس لا توحي أن هناك برداً يمنع الحركة، خصوصاً إننا في رأس السنة الميلادية، ما يعني أن الشتاء الآن يكاد يكون في منتصفه، أو انقضى ثلثه الأول في أقل تقدير، لكن، وبكل الأحوال، هي ليست تلك الحركة التي عُرفت الموصل بها قبل سنين طوال، يوم كنت أحب ليلها أكثر من نهارها لشدة روعة جماله الناطق، جمال اُمسيات ملاح، وليل لا يعرف النوم حتى طلوع الصباح..!

توقفت السيارة أمام أحد المطاعم الكبرى في وسط الموصل، لم أكن أدري أين أنا، فعتمة الليل أضاعت عليّ الطريق والأحياء والمناطق التي أعرف، كما أن الاحتلال الأميركي والشيعي والكردي قد غير الكثير من ملامح الموصل الحدباء، وربما فرحة اللقاء بحبيبتي الموصل هي من غيرت في ذهني رسم خارطة المدينة، حتى ما عدت أدري أفي جانبها الأيمن أنا، أم الأيسر! لكن أياً يكن، فليس ذات أهمية وجودي في يمينها أو الشمال، ما دمت على أرضها المباركة، أرض الأنبياء، أرض الأتقياء، أرض الصالحين.. أرض المجاهدين!

كنت أول المترجلين من السيارة بحكم جلوسي على مقربة من الباب، ثم تبعني البقية في النزول، الجميع كانت عيونهم على الحقائب، إلا أنا فلقد كنت منشغلاً في النظر صوب تلك البنايات التي تحيط بي، والتي اُنير بعضها بمصابيح خفيفة، فيما بقي بعضها الآخر منتصباً وسط الظلام، وليس العيب فيها، بل العيب والعار على من سرق حقها في الكهرباء، من شيعة وكرد، قبل أن يسرقوا حق أهلها في الحياة!

كنت أحمل كاميرتي بيدي، والتي تحرجت من استخدامها قبل معرفة القوانين، فلا أعرف أن كان مسموحاً إلتقاط الصور، أم أن ذلك ممنوعاً في أرض يترصدها القريب والبعيد، وكنت كل ما وثقته حينذاك بعض الصور في لحظة دخولي أرض الخلافة، أما اللابتوب فقد وضعتها على كتفي منتظراً أن يأخذ كل مسافر حقيبته لألتقط حقيبة الظهر التي أحملها معي!

أخذ المسافرون يوقفون سيارات الأجرة (التاكسي) ليذهب كل واحد إلى بيته، ووقفت السيدة التي كانت برفقتنا، والتي جاءت إلى الموصل دون أن يكون أحد برفقتها، وأخذت تشير لسيارات التاكسي، وكلما توقفت سيارة رفض سائقها أن يَقلّها إلى بيتها، ما دعا بعض المسافرين، ممن كانوا برفقتنا، للإقتراب منها سائلين إياها عن سبب رفض أصحاب التاكسيات أن يَقلّوها إلى حيث تريد، فأكدت إنهم يخشون أن تتم محاسبتهم من قبل مفارز الدولة الإسلامية، كونهم يقلّون سيدة بِلا مِحْرَمْ معها، إذ أن ذلك يُعدُّ مخالفة شرعية، وهو ما دعا أحد الرجال ممن كانت معه سيدتين إلى التطوع بإيصال السيدة إلى دارها، حيث ستكون برفقة تلك العائلة المكونة من ثلاثة أشخاص، إمرأتين وذلك الرجل، وحينها لا خوف عليها من أي شيء، واستقلت تلك العائلة سيارة تاكسي مصطحبين معهم تلك السيدة، التي كانت بِلا مِحْرَمْ، بهدف إيصالها إلى دارها بأمان، وبلا إحراجات الطريق!

تفرق جميع المسافرين بين هذه التاكسي وتلك، فيما عداي أنا وصاحبي، الذي أصرّ أن أرافقه إلى داره للمبيت، فطلبت منه مهلة بضعة دقائق لأقرر ذلك من عدمه.. استغرب طلبي المهلة أول الأمر، لكنه اكتفى بالقول لي:

حسناً، أنا بالإنتظار!

نظرت شمالاً ثم يميناً، وكنت أبحث عن تواجد للمجاهدين من رجال الدولة الإسلامية على مقربة منّا، فلقد اقسمت على نفسي أن لا تمر هذه الليلة إلا وأكون برفقة اُسود الجهاد، كي تكون آخر ليلة لي في هذا العام مع المجاهدين، ويكون أول يوم لي في السنة الجديدة في مضاربهم أيضاً، بعدما اعتدت أن أقضي مثل هذه الليلة خلال السنوات الماضية متحسراً على ساحة افتقدتها، بعدما أشار عليّ إخوة الجهاد أن أكون إعلامياً مناصراً ومسانداً لهم من الخارج، حينما اصبح من النادر أن تجد إعلامياً أو صحفياً ينصف المجاهدين، أو يقدم لهم مساعدة، أو دعماً إعلامياً، أو ينقل عنهم حقيقة ما يجري على الأرض، فخضعت حينها لذلك الرأي، مكرهاً غير راغب، وهاقد حانت ساعة العودة إلى هذه الأرض، وتقبيل تلك الأيادي والأقدام التي لطالما أغبرت في سبيل نصرة الإسلام، دين الحق، هذا الذي يعاديه الروم، ويحاربه الفرس، وينكل به اليهود، ويتجرأ عليه البوذ!

على بُعد قرابة المائة متراً ابصرت سيارة تتبع إلى الشرطة الإسلامية متوقفة في تقاطع يلتقي عنده عدة طرق.. كانت الإشارة الضوئية (الترفكلايت)، التي تتوسط ذلك التقاطع، متوقفة بسبب إنقطاع الكهرباء، ومع أن إنارة المطاعم وبعض البنايات كانت تنير الشارع بإتجاهيه، إلا أن سيارة (النجدة) التابعة إلى شرطة الدولة الإسلامية كانت تستقر في منطقة شبة مظلمة، لكني اُبصر بجانبها من بعيد ناراً خفيفة الوهج، فقررت التوجه إلى رجال الشرطة الإسلامية لعلي أجد عندهم مبتغاي!

قلت لصاحبي الموصلّي، المهندس (حازم):

سأعود إليك بعد قليل.. إنتظرني هنا.. وكان يقف أمام المطعم مباشرة!

ردّ عليّ بإبتسامة خفيفة، ترافقها علامات إستفهام كانت بادية على وجهه:

سانتظرك هنا للصباح، ولن أذهب بدونك اليوم!

شكرته على كرمه، وذهبت سيراً على أقدامي بإتجاه دورية الشرطة الإسلامية عند التقاطع، وحقيبتي على ظهري، حاملاً بيدي الكاميرا، فضلاً عن (اللابتوب) المتدلية من كتفي..

كنت أجد خطواتي بطيئة جداً، فأخذت أحثها وأمدّها، وكإنني إن تأخرت عنهم فسيسرقهم مني أحد ما، وصلتهم وكانوا يجلسون على كراسي ثلاثة، فيما كان هناك كرسياً شاغراً.. بادرتهم بالسلام، فخرج في ذلك الوقت رابعهم من السيارة التي كانت متوقفة بجانبهم، تحت مظلة تحميهم من عيون طيران إيران والغرب والخليج والأردن والمغرب، وبقية الحلف الستيني الشيطاني، الذي لا يغادر سماء الموصل الصامدة!

رد عليّ الجميع السلام، وكانوا يجلسون حول (چولة) وضعوا فوقها أبريق شاي، زاد الفحم الذي يغطيه لذلك الليل سواداً..

والـ (چولة) هي الصديقة الوفية للعائلة العراقية الفقيرة، فهي تمثل إحدى أهم أدوات الطبخ والتدفئة في البيت العراقي، وعادة ما يتم الإعتماد عليها بشكل كلي في البيت، كونها تعتمد على النفظ الأبيض الذي هو أرخص من بقية أنواع الوقود، ويمكن تصليحها بسهولة مهما كان حجم أعطالها، لكن المشكلة معها إنها تحول البيت إلى قطعة من السواد، بفراشه وأثاثه وأمتعته، بل وحتى الملابس والوجوه والإنوف، ما يجعل الحاجة مُلحّة إلى أنواع خاصة من المنظفات، كي يتم التخلص من آثارها التي تخلفها على كل ما يحيط بها، ومن شدة سوء حالها، اطلقوا الـ (چولة) كوصف على من يحمل رتبة (نائب ضابط) في الجيش العراقي السابق، كون صاحب هذه الرتبة معروف بإنه إن لم يجد من (يحرقه) أمام مرؤوسيه، فإنه يقوم بإحراق نفسه، وكذا حال الـ (چولة) التي تحرق نفسها وما حولها من شدة الدخان ومخلفاتها الفحمية!

قال أحد رجال الشرطة الإسلامية، ممن كان يتدفأ على تلك الـ (چولة):

تفضل حياك الله!

أجبته:

هل لي بسؤال؟!

رد عليّ أحد الرجال الأربعة من خلف لثام كان يضعه، رغم الظلام الذي كان يغطي المكان:

فقط سؤال! تفضل، نحن بخدمتك!

إجبته وكإنه نطق جُرماً بحقي:

معاذ الله، بل أنا من يخدمكم يا تيجان الرؤوس، إنما جئتكم من آخر الأرض، من الطرف الثاني للعالم، لأنقل للعالم واكشف له حقيقة ما يشاع ويروج ويفترى به على دولة الخلافة الإسلامية، وكذلك لأعطر انفاسي بنسيم وجودكم على هذه الأرض ووو...

وذكرت له أشياء أخرى أتحفظ عن ذكرها هنا، فلي في زيارتي مآرب أخرى، فليس كل ما في الجوف يقال!

نهض الرجال الثلاثة ووقفوا على أقدامهم، فيما إحتضنني الرجل الذي ترجل من دورية الشرطة الإسلامية، وتناوب الجميع على إحتضاني ومعانقتي، فيما كنت اُقبّل رأس كل واحد منهم بعد الإنتهاء من المعانقة، ولو سمحوا لي لقبّلت أقدامهم قبل رؤوسهم، فالشرف كل الشرف في أن يتعفر وجهي بالتراب الذي تطأه قدم مجاهد خرج ليقاتل في سبيل الله!

كاد قلبي، ومن شدة الفرح، أن يطير أو يتوقف، حينما وجدت نفسي وسطهم وهم يحتفون بي على طريقتهم الخاصة!

سألني أحدهم:

كيف وصلت إلى هنا يا أخي؟!

قلت:

قصة طويلة سأكتب عنها يوماً!!

قال: تكتب!! وماذا تعمل بالتحديد يا أخي حياك الله؟!

ذكرت له إنني صحفي وإعلامي..

أجاب:

ما شاء الله!

قلت له ولبقية رجال الدورية:

أسمعتم بالصحفي حسين المعاضيدي؟!

صمت الجميع، وكإنهم يحاولون إستذكار الاسم، فسارع أحدهم للقول:

أعرف حسين المعاضيدي الذي يكتب في المنتديات الجهادية، فلقد كنت أحرص على القراءة له منذ زمن ما قبل الفتح! وكان يقصد بزمن الفتح، وقت تحرير مدينة الرماح ،الموصل الحدباء، من سيطرة الشيعة والكُرد!

فقلت له، ولبقية زملائه من رجال دولة الخلافة:

وهاقد أتاكم كاتب المنتديات الجهادية بنفسه إلى ساحة جهادكم!

فأخذ ذلك الرجل الذي عرفني، يكبر الله وحمل بندقيته، التي كان يركنها على حافة الكرسي، بيد واحدة، وانطلق إلى حافة الشارع الثاني، بجوار عمود الإشارة الضوئية، بعدما قطع الشارع الأول بخطوتين، وهو ينادي باعلى صوته:

باقية .. باقية.. دولة الإسلام باقية!

ثم اعقبها بالتكبير ثلاثاً:

الله اكبر .. الله اكبر .. الله اكبر

969474_304968509651435_1218595626_n_smal

في هذا الوقت إنشغل بقية الرجال الثلاثة في إعادة إحتضاني من جديد، بعدما علموا مهنتي الصحفية، ونصرتي لهم منذ أمد بعيد، ووصولي إلى أرض الخلافة.. ثم عاد ذلك المجاهد ليحتضنني، وكإني أخ له انقطعت عنه أخباره منذ قرون، والآن قد عاد، وهو ما أحسسته بداخلي نحوه!

كانت الدموع تنهال من عيناي بغزارة دون أن يلحظوا ذلك بسبب ضعف إنارة المكان.. تمنيت حينها لو إنني ما وافقتهم يوماً واطعتهم على الخروج من ميدان الجهاد، ولبقيت في سوح الوغى، فمرارة ذلك لا يعرفها إلا من فقد لذة الجهاد، حتى وإن كان بمهمة إعلامية مفروضة عليه..!

تمنيت في تلك اللحظات لو إنهم تركوني وانفضّوا من حولي لأبكي بصوت عالِ وحرقة كبيرة.!

احسوا بدموعي، وقالوا لي كفكف دموعك قد وصلتنا، فقلت لهم إنما هي دموع الفرح، مع إنها قبل أن تكون دموع الفرح إنما كانت دموع الحرقة على ما فات!

قلت:

سأستأذنكم الأن، ثم أعود إليكم بعد قليل!

قالوا لي:

إلى أين يا حاج؟! قل لنا ونحن نأتيك بما تريد..!!

أجبتهم:

لي رفيق سفر، موصلّي، طلب مني أن أكون ضيفه الليلة، إن لم أجد مكاناً لي، وسأذهب إليه لأعتذر عن مرافقته، بعدما وجدت مكاني الذي كنت أبحث عنه منذ سنين!

سألوني: هل دفعت إجرة التاكسي أم لا ؟!

استفهمت منهم عن الغاية من السؤال فأجابوني:

كي ندفعها نيابة عنك!

توقفت، وقبل أن اُجيبهم قلت في نفسي، يا الله، أي حال هذا الذي أنا فيه، حُسن اُستقبال، وفيض كرم، وحميمية لقاء، وعذوبة لسان!

أجبتهم:

وعشرة نعم منكم يا أحبتي، قلتها هكذا بصيغتها العراقية المعهودة، ثم أضفت عليها:

جزاكم ربي الجنان على عظيم كرمكم، لقد دفعت الإجرة، ومعي ما يكفي من المال، يا رعاكم الله!

ثم عدت راكضاً جهة صاحبي، (ابن الموصل)، بعدما وضعت حقيبتي وكاميرتي وحاسوبي (اللابتوب) بجوار الكراسي التي كان يجلس عليها رجال الدولة الإسلامية الاربعة، وقبل أن أصل إليه قابلني، صاحبي الموصلّي، في منتصف الطريق ، بعدما ترك حقيبته في الطرف الآخر من الشارع، وبادرني بالسؤال قبل أن أصل إليه بخطوات:

طمني، ماذا يجري، هل من مشكلة؟!

وكان يستغرب ذهابي إلى دورية الشرطة الإسلامية، وقرأت في عينيه الكثير من التساؤلات.. فقلت له:

أشكر لك كرمك وما غمرتني به من طيب، وأعتذر منك لإنني لن استطيع مرافقتك، فلقد وجدت ضالتي التي جئت أبحث عنها من مسافة آلاف الكيلومترات، فلقد وصلت إلى أهلي هنا!

كان ينظر إليّ وهو يحاول فهم الموضوع، وما أن أتيت على ذكر وصولي لأهلي حتى رفع عينيه بإتجاه رجال الدولة الإسلامية، الذين كانوا على مسافة خلفي، وأخذ يهزُّ رأسه، تعبيراً عن فهمه للموضوع.. وبغض النظر عما فهمه من صيغة كلامي، أجابني وهو يشبك ذراعيه حولي محتضناً إياي ومودعاً:

نصركم الله!

ثم أضاف عليها:

أتمنى أن التقيك يوماً.. فأجبته على الفور:

اسمي (حسين المعاضيدي)، إبحث عني على الإنترنت وستجدني، إن شاء الله تعالى.. في رعاية الله، وليحفظك ربي، ثم غادرني، فيما قفلّتُ راجعاً بسرعة إلى حيث تواجد رجال دورية الشرطة الإسلامية!

قبل أن أجلس على الكرسي الذي دعوني للجلوس عليه، طلبت منهم إفساح المجال لي لتأدية سجدة شكر وحمدٍ لله على ما أنعم به عليّ، وحينما سجدت، سمعت أحد رجال الدولة الإسلامية وهو يبكي، ومع إنني لم اسأله عن سبب بكائه، لكنني شعرت بشدة فرحه بوجودي بينهم، مع إنني كنت حينها أكثر أهل الأرض والسماء فرحاً بوجودي بينهم هناك!

كنت حينذاك أشعر إنني كطفل حصل من أبيه على نقود في صبيحة العيد، إختلطت دموعي بضحكاتي، قلبي يكاد يخرج من بين أضلعي، وكإنني ولأول مرة أرى مجاهدين في سبيل الله، مع إنني عملت بمعيتهم ردحاً طويلاً من الزمن، لكنه ربما الشوق الذي طفح بي كيله إلى تلك الوجوه الباسمة التي افتقدتها كل هذه السنين!

جلست على أحد الكراسي الأربعة، فيما بقي الجميع في حالة وقوف، وأخذ آمر الدورية ينادي بالجهاز إلى جهة أخرى، مُبلغاً إياهم أن الصحفي والإعلامي حسين المعاضيدي جاءهم من أوربا، وأخذ يسألهم عن الإجراءات المتبعة في إستقبال المهاجرين والمناصرين والصحفيين، فجاءه الرد، على مسامعي، بالترحيب بي أولاً، ثم طلب التأني حتى يتم الإتصال بمن يعنيهم الأمر، وانتهى الإتصال عند هذا الحد!

بعدها إجتمع الأربعة حولي، وبدأت الأسئلة تنهال عليّ، وكانت جميعها عن الصحافة والإعلام والتصوير والإصدارات، وكيفية وصولي، والعقبات التي واجهتها والكثير من الأسئلة التي قضيت قرابة النصف ساعة وأنا أحاول تلخيص إجاباتها!

قلت لهم، دعوني أقول لكم شيئاً، العالم كله منشغل بفتوحاتكم، وغير مصدق ما يجري من إنتصارات كاسحة على أيديكم، رغم ضخامة عدة وعدد العدو وكثرة تحالفاته، وحق لكم أن تفخروا بذلك، وحق لنا أن نفخر بكم، واعلموا أن جميع المسلمين الموحدين في العالم إنما انظارهم شاخصة نحوكم، ويترقبوا بشغف أنباء انتصاراتكم وفتوحاتكم، ليثلجوا بها صدورهم ويغيضوا ببشائرها أعدائهم وأعدائكم!

رد عليّ أحد المجاهدين الأربعة، وكان شاباً في منتصف العشرينات، نفر من البصرة الفيحاء بإتجاه الموصل الحدباء، في أعقاب الفتح المبارك، يوم تم سحل الجيش الشيعي والبيشمركة الكُردية على أيدي اُسود الإسلام، لينضم هذا الشاب من الجنوب إلى خندق مجاهدي الشمال.. قال لي:

والله إننا نلقنهم هنا كل يوم دروساً في فن الحرب، ولو تراهم كيف يهربون من أمامنا كالجرذان حين إشتداد المعارك وتعاقب الصولات لعرفت كيف أن الله معنا، وهو عضيدنا وناصرنا!

ثم دخل على خط الحديث رجل، يقترب من الخمسين عاماً، كان يضع بندقيته في رقبته حتى وهو جالس على الكرسي، فأضاف على كلام زميله:

اُنظر، أنا في عقدي الخامس، واسكن مدينة تلعفر، وقبل أسابيع قُتل أخي في إحدى المعارك مع البيشمركة بعد قصف الطيران الأميركي له، وفي رقبتي الآن سبعة عشر شخصاً، أمي وأبي، وعائلة أخي المقتول، وزوجتي وأطفالي، تركتهم والله بلا معيل، وقد تركت لهم الله، فوالله لن أخذل ديني، ولن أخذل اُمتي!

كان يتحدث وقشعريرة تنتاب كل جسدي سببها ضآلة ما أنا فيه، وضحالة ما أقدمه من نُصرة إعلامية مقابل ما قدمه ويقدمها أمثال ذلك المجاهد الخمسيني الذي تميزت شخصيته بالبساطة ودماثة الخلق والنبل الرفيع، إلى جانب بركان القوة الذي يغلي مرجله بداخله!

كنت استمع إليهم وكإنني في حلم، بل وكإن الملائكة هي من تحفني وتحيط بي وتحادثني وليس آدميين من جنس البشر.. تحول ذاك البرد الليلي، الذي كان ينتابني أول نزولي من السيارة، إلى حرارة يكاد يحترق منها قلبي الأن وأضلعي التي تحيطه كسوار حول معصم!

قال لي جليس ثالث، وهو مجاهد من أحد أحياء مدينة الموصل:

نعم نحن شرطة إسلامية، ولكننا بنفس الوقت نقاتل في مختلف الجبهات، هل تصدق إننا من حرر جبل سنجار، فقد قامت الشرطة الإسلامية بصولة على الجبل وحررناه في ظرف ساعات، بمعونة من الله، ولو رأيت كيف يهرب من نجا من البيشمركة من أمامنا لعرفت كيف أن جيشاً سماوياً ربانياً يشارك في القتال إلى جانبنا!

ثم أضاف مجاهد آخر، هو من أبناء الموصل أيضاً، كان يجلس بجانبي:

لا توجد عندنا شرطة إسلامية ثابتة، حيث يتم إستبدالنا بإستمرار، لإن الجميع يريد المشاركة في المعارك وفي الفتوحات، وفي الدفاع عن حدود دولة الخلافة، فرغم أهمية وجودنا في الشرطة الإسلامية لكن شوقنا للمعارك يبقى أكبر!

أراد أحد المجاهدين أن يصب لي الشاي، فتذكرت إنني لا زلت على صيامي، ولم اُفطر بعد، رغم غياب الشمس قبل ساعات، فطلبت منهم الماء لاُفطر، فتفاجئوا من تأخر إفطاري، فما شعرت إلا بأحد المجاهدين وقد إندفع راكضاً بإتجاه المطعم الذي توقفنا قبالته بسيارة الأجرة التي كنا نستقلها أول الأمر، ليحضر لي فطوراً من ذلك المطعم دون أن يخبرني حتى بنيته هذه، فيما سارع مجاهد آخر لتقديم الماء لي في قدح بلاستيكي متوسط الحجم..

كنا نجتمع حول تلك الـ(چولة)التي بالكاد تُدفئ نفسها من ضعف نارها، واشحت بنظري صوب تلة كبيرة تنتصب بجانبنا، غطى الظلام على كثير من تفاصيلها، قلت لهم:

أوليست هذه التلة التي يقال عنها إنها للنبي النبي يونس، عليه السلام، فاكدوا لي صدق توقعي، وكيف لا أعرف هذه التلة التي لطالما زرتها واطلعت بنفسي على ما كان يجري فيها من شرك وطواف حول قبر زعموا إنه مرقد للنبي يونس، عليه السلام، مع أنه قبر لقسٍ نصراني، دُفن في كنيسة اُقيم على انقاضها جامع، إدّعى القائمون عليه، زوراً وكذباً، إنه بُنيَ فوق قبر النبي يونس، عليه السلام، فأخبرت أولئك المجاهدين بقصة ذلك المقال، الذي كتبته موضحاً فيه ملابسات هذا المزار، وشرحت فيه حقيقة من يسكن هذا القبر، ومشاهداتي لما كان يجري فيه قبل الاحتلال، وحتى بعد سنوات الاحتلال يوم كنت دائم الزيارة والتواجد في مدينة الموصل الأبية، بحكم تجوالي الإعلامي وقتذاك.. وأضع هنا رابطاً للمقال الذي وضعت فيه بعض النقاط على بعض الحروف، حول حقيقة هذا القبر، وصواب فعل الدولة الإسلامية بإقدامها على إزالته من الوجود توحيداً لله، وحفظاً للعقيدة السليمة من الزلل والزيغ والإنحراف، بعد القدرة والتمكين:

 https://justpaste.it/k1f8

 

 وفجأة جاء لرجال الدولة الإسلامية الذين كنت اُجالسهم اتصال يعلن فيه المتصل عبر جهاز اللاسلكي (الراديو) حالة النفير، والإستعداد لموقعة قادمة، فتقافزت الاُسود الثلاثة التي كانت بقربي، وكل ذهب مسرعاً إلى جهة آخذين في جمع أغراضهم وحاجياتهم وهم يتباشرون..!

لم أفهم الأمر، فما الذي جرى، أو يجري حولي، سألتهم:

ما الذي يحدث يا إخوة؟!

قال لي الرجل (العفري)، كما يسمى أبناء تلعفر، والذي كان يتحرك في حماسة لم أرَ مثلها قبل ساعتي تلك:

نفير نفير!

تساءلت:

وماذا يعني ذلك، خبّرني بالله عليك؟!

سابقه بالإجابة مجاهد آخر، سبقه في جمع أغراضه:

ستكون هناك صولة على ملاحدة البيشمركة هذه الليلة، ونحن سنشارك فيها، قالها وكإنه كان ينتظرها بفارغ الصبر منذ سنين وعلى أحرِّ من الجمر، مع إنه أكد تواصل الملاحم والصولات التي يشارك فيها ضدهم وبشكل يومي!

عاد ذاك الشاب المجاهد، ابن نينوى، من المطعم الذي قصده ليأتيني بالفطور وهو يعدو مسرعاً، ولا أعرف كيف علم بأمر الصولة وهو هناك، ربما من جهاز اللاسلكي الذي كان يحمل واحداً منه هو الآخر!

قال لي:

يا حبيب: هذا فطورك واعذرنا من التقصير..!

كانت رائحة الكباب العراقي تفوح من الكيس النايلوني الذي خلّفت فيه حرارة الخبز أثراً، وضعتُ الكيس الذي يحوي طعام فطوري على الكرسي، ولم أتمكن حتى من شكرهم على كرمهم وطيبهم وحفاوتهم بي من فرط فرحتهم بذهابهم إلى موقعة جديدة.. فواصلت اسئلتي لهم، وسط الإرتباك الذي كنت فيه أنا، لا هم:

متى سيكون نفيركم إلى المعركة؟!

أجابني من أحضر طعام الإفطار:

الآن، وسنكون بإنتظار سيارة خاصة تُقلنا إلى حيث بقية المجاهدين.. ثم أضاف أمير المجموعة، الذي كان أول من انهى إستعداده للذهاب:

كم نتمنى لو إنك ترافقنا، فتشارك في معاركنا مع أول وصولك، وتصوّر بكاميرتك هذه هزائم البيشمركة والمرتدين..!

ابديت له إستعدادي للمشاركة والذهاب برفقتهم في معركتهم هذه وتصوير وقائعها، لكنه ابلغني أن الأمير لن يقبل بهذا قبل الحصول على الموافقات الخاصة، حفاظاً عليك، وحماية لك، كما قال!

خاب مسعاي، وذهبت محاولاتي أدراج الرياح، لكني أتفهم موقفهم، فمثل هذه الأمور لا تأتي على هذه الشاكلة، فلقد عملت سنيناً في هذه المهمة الصحفية الجهادية، واُدرك تماماً أن القيام بها يتطلب الكثير قبل الوصول إلى نيل هذا الشرف العظيم!

لم يتطلب الأمر أكثر من دقائق لتصل السيارة التي جاءت لتقلهم، وقبل وصولها استقبلها الليوث مسرعين، وما هي سوى لحظات حتى اصبحوا بداخلها، وحتى قبل أن تتوقف، من شدة لهفتهم على المشاركة في الصولة على جموع البيشمركة الكردية..!

بقيت متسمراً في مكاني، منذهلاً من هول ما أراه من همة وتسابق على المعارك، مع أن أحدهم يدرك تماماً إنها ربما ستكون معركته الأخيرة قبل أن يلتحق بمن سبقه ممن رووا بدمائهم الزكية الطاهرة أرض الرافدين والشام الأبيتين، وسائر بقاع الجهاد..!

تحركت السيارة قليلاً ثم عادت لتتوقف، حيث قفز منها ثانية أمير المجموعة، الذي جاءني هرولة، بعدما كان قد صعد على متنها، فقال لي:

يا حاج، تستطيع إنتظار الإخوة الذين سيأتون إليك هنا كي يصطحبونك إلى مكان آخر، وإن شعرت بالبرد فإجلس في السيارة هذه، ولا تنسانا بالدعاء، ثم احتضنني قبل أن يعود مسرعاً إلى السيارة التي أرتقى على ظهرها كما يرتقي الفارس فرسه..!

نظرت حولي، بعدما غادروا، تجمدت، كتمثال أبي الهول، لدقائق في مكاني دون حراك، ثم تقدمت خطوات بإتجاه سيارة الشرطة الإسلامية التابعة لدولة الخلافة، كنت اتصرف بلا وعي، فتحت الباب، دخلتها، جلست خلف المقود، كان مفتاحها فيها، أدرت المفتاح، وسرعان ما دار المحرك، أنرت مصابيحها الأمامية، دقيقة مضت حتى عدت لأطفئ المحرك والأنوار معه، أرجعت المقعد إلى الخلف قليلاً، إتكأت عليه بقوة، ثم أرخيت نفسي، واغمضت عيني، ثم هذيت بكلام أتذكر منه:

ياااااااه أين كنت، وأين أصبحت.. يا الله، أين أنا!!!

فأجهشت بالبكاء، مستغلاً خلو المكان إلا مني ومن سيارة شرطة دولة الخلافة الإسلامية، لم أعلم سبباً مباشراً لنوبة البكاء الحادة والغريبة التي اجتاحتني لحظتها، ولا سبباً مقنعاً لتلك الدموع الغزيرة التي لم اُكلف نفسي حتى عناء تجفيفها عن خدايّ وقتها، لكنني متيقن من شيء واحد فقط، وهو إنها ما كانت لتكون، ولن تكون أبداً، دموع الندم!

حسين المعاضيدي

******************************

 هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي

cd-zvupusaa7ehx_small.jpg
الحلقة الرابعة
121345_small.jpg

لأكثر من ساعتين وأنا أجلس خلف مقود سيارة الشرطة التابعة للدولة الإسلامية في ذلك التقاطع، الذي تنير بعض من جوانبه بقايا المحال التجارية، التي ما تزال مُشرعة الأبواب بوجه زبائنها، وأبرزها تلك المطاعم المتجاورة، والتي تستعين بمولدات كهربائية للحصول على إنارتها، إذ لا يزال التيار الكهربائي منقطعاً عن المنطقة بأسرها..!

لم أكن اشأ الخروج من السيارة التي تمنيت لو إنها كانت قبراً لي يضمني إلى آخر يوم تقوم فيه الساعة، فما أجمل أن يكون قبرك في سيارة تحمل تلك الراية التي لطالما حلمنا بأن تعلو فوق هاماتنا، وترفرف خفاقة على كل رابية، ويزين بها كل ملبس، ويزدان بها كل مكتب، ويزهو بها كل دار، راية الحق، راية لا إله إلا الله، التي ومن فرط حبي لها قبّلتُها وهي على سيارة الدولة الإسلامية مرات ومرات!

طال إنتظاري، ولم يصلني أحد من المجاهدين ليصطحبني إلى مكان آخر، مع إنني تمنيت أن لا أغادر هذا المكان ولا أبرحه، فأي عزّ ذاك أن تكون رجل أمن (حقيقي)، تسهر على حماية أمن رعايا الخلافة، وتحفظ مصالحهم، وتكون خادماً لأصغر طفل رضيع فيهم، وترعى أمورهم وشؤونهم، إنها تالله لغاية كل مجاهد، وهي لعمري الهدف لكل من حمل السلاح مجاهداً في سبيل الله، إقامة شرع الله، وحفظ مصالح العباد..!

علمت أن التأخير إنما كان بدافع شدة المعارك التي يخوضها رجال الخلافة على أكثر من جبهة وقاطع، وفي الحرب، وحينما يحمى الوطيس، فلا لوم على من نسي، أو إنشغل، أو تأخر، ولا أشد من وطيسها اليوم، ورجال الدولة الإسلامية يخوضون حرباً هي الأعنف على مرّ العصور، فحتى الحربين العالميتين الأولى والثانية التي كانت الأشد ضراوة على مرّ التاريخ كان فيها معسكرين شبه متساويين، وكان لكل منهما، سواء معسكر الحلفاء، أو معسكر المحور، ملايين الجنود، وترسانة ضخمة من الأسلحة بمختلف أنواعها وأحجامها، وآليات مدرعة وطائرات وغواصات وبارجات، ولكل طرف ماكينته الإعلامية الدعائية الضخمة، وموارده الإقتصادية التي لا حدود لها، ولم يكن هناك توقع لهوية المنتصر فيها حتى اللحظات الأخيرة، في حين أن دولة الخلافة الإسلامية اليوم يخوض العالم كله ضدها حرباً ظالمة شعواء شرسة، لا عدل فيها ولا إنصاف، خندق باطل يملك العالم بأسره، بإعلامه، وبأمواله، وبإقتصادياته، وببتروله، وبأسلحته (المحللة) منها و(المحرمة)، وبآلاف القنوات والإذاعات والصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية التي لو وجهت نحو اعتى إمبراطورية على وجه الكون لأنهارت في يومها وليلتها، بلا إطلاق رصاصة واحدة نحوها، خندق تمترس فيه أقوى جيوش الكون وحشية ضد دولة وليدة، دولة لو لم يكن الله معها لما بقيت يوماً واحداً قبالة هذا الكم الهائل من الحشد الشيعي الرافضي، والكردي القومي، والسُني المرتد، والليبرالي الملحد، والشيوعي الحاقد، والصليبي الغازي، واليهودي المحتل، والعربي الغاشم، وغيرهم من حثالات الأرض ولملومها.. وأمام كل هذا، كيف لا اُعطيهم العذر إن نسوا الحضور إليّ، أو خانتهم ظروف المعارك..!

لكن ما قفز إلى ذهني شيء واحد، كيف يتركوا سيارة النجدة التابعة للشرطة الإسلامية ويغادروا هكذا، دون أن يبقى فيها ولو عنصراً واحداً ليحميها، بل ويتم ترك مفتاحها فيها، أهو الأهمال، أم إنه منطق (عدلت فآمنت فنمت)، مع إنهم لا يعرفون للنوم طعماً!؟

كان هذا التساؤل هو نقطة التحول في رحلتي تلك، والتي لم اُخطط أين ستكون نهايتها بدقة، بل تركت الحبل على غاربه، وتركت الله يُقّدر لي ما يشاء في رحلة أردت من خلالها إستكشافاً لداخل دولة اشغلت العالم بأسره، رعباً وخوفاً لمن حاربها وعاداها، وحباً وطمعاً لمن رغب في الهجرة إليها والعيش في كنفها!

لا أعلم لماذا كل ما خزنته من أفكار، وكل ما خططت له وأنا ادخل اراضي الدولة الإسلامية قد تغير، ليس في ليلة وضحاها، بل في دقيقة وثوانيها، فهذا المشهد الذي مرّ بي، من طريقة إستقبال رجال الدولة الإسلامية لي، ثم تركهم لي لوحدي في سيارة شرطة النجدة، وثقتهم بي لهذه الدرجة، حتى وأن عرفوا إنني صاحب القلم الذي لم يخذلهم يوماً، ولم يتقاعس عن نصرتهم أينما كان على سطح هذه البسيطة، بفضل الله تعالى، فالمتصيدين في الماء العكر كُثر، ومن أرتموا في أحضان مخابرات الشرق والغرب اغلبهم من الصحفيين، أبناء مهنتي، وأنا ابن هذه المهنة التي أعرف كل طرقها الملتوية، وأساليبها المنحرفة، ودسائسها الخبيثة، وكواليسها المهلكة، حتى بات البحث عن قلم حر شريف ينطق بالحق، كالباحث عن إبرة في كومة قش، أو كمن يطلب من حفاة جمع دقيق فوق شوك يوم ريح تم نثره، بعدما بات الإعلام، هذا الذي ما وجد إلا لخدمة الإنسانية، هو عصب الحرب اللا إخلاقية، ووسيلتها القذرة، وسلاحها الخسيس الفتاك لمحاربة كل قيم الإنسانية، حتى إنني، وفي كثير من الأحيان، أشعر بالخجل، وبالعار، وبالدونية، لإن هناك من يطلق عليّ لقب صحافي وإعلامي، لإن الاسم يشعرني بالإرتزاق عبر النخاسة، أياً كانت تقواي، وبالعهر، مهما امتلكت من الشرف، وبالخسة، بغض النظر عن صدق إيماني بقضيتي، لكني، وأعترف على الملأ إنني اليوم استخدم سلاحي (القلم) كسوط أجلد به نفسي أولاً، لتقصيري الكبير في دعم كل مجاهد على سطح هذه الأرض، رفع السلاح رداً ودفعاً للظلم، ودفاعاً عن النفس وعن الأرض والعرض، وقبل هذا وذاك دفاعاً عن الدين، وبعد جلد النفس أقوم بجلد زملائي ورفاق مهنتي، ممن تخاذلوا عن نصرة الحق، وانحازوا إلى الباطل من أجل حفنة بخيسة من الدولارات والدراهم والدنانير والتومانات الملطخة بدماء كل من سُفك دمه ظلماً وعدواناً على ظهر هذه الأرض التي نعيش عليها، وأبرزها أرض الرافدين والشام التي (أبدع) زملاء مهنتي من الصحافيين والإعلاميين في دعم خندق الإجرام فيها، خندق (إيران وأميركا)، وبكل ما أتوا من بلاغة شيطانية، وحبر رخيص، وأقلام مأجورة، وكاميرات تبصر بعين أعور دجال، فتجعل من أميركا، وحليفتها القديمة الجديدة إيران، معسكراً للخير والطهر والعفاف والنقاء، وتشيطن خندق الحق وتهجوه وتطعنه وتصفه بالنفاق والرياء والبغاء، فما أخس مهنتي، بعدما اصبحت مرتعاً للمتعطشين للسحت الحرام، وملاذاً للناعقين في كل محفل بلا عقل ولا فؤاد، وبؤرة للمنبطحين المتعطشين للذل والخنوع وذل السؤال، ووكراً للكاذبين بلا رقيب أو سلطان، والحق أقول إنني يوماً وحينما مُنعت من قبل حكومة العراق من الكتابة والتطرق إلى أمور السياسة وشؤون الناس قبل سنوات الاحتلال، إضطررت لدخول عالم الصحافة الفنية والرياضية، فوجدت في عالم الفن ما يشيب له الطفل الرضيع من العهر، والفجور، والوضاعة، والنذالة، وقلة الحياء، وإنعدام الأخلاق، حتى كانوا كرافضة اليوم، لا يعرف أحدهم أمه من أباه، لكني وحينما أقارن عالم الفن هذا بعالم الإعلام، أجده لا يمثل شيئاً بالمطلق أمام قذارة الصحافة وسخف الإعلام الذي عملت ولا أزال أعمل في وسطه اليوم، وأهل الفن على رخص كثير منهم، إلا إنهم كحجر الماس أمام أكبر صحفي وإعلامي من أبناء مهنتي ممن نذر نفسه للشيطان!

اشغلني موضوع الأهمال، أو الثقة الزائدة من قبل المجاهدين بالشارع وما يحويه، حينما تركوا دورية النجدة هكذا بلا حارس أمن، فهناك شيء لا أفهمه، ويجب عليّ الوقوف عليه.. آنذاك كان طيران الحلف (الغربي – العربي - الإيراني) يحوم في سماء الموصل، حتى إنني شعرت إنني في حضرة مطار المقبور (أتاتورك)، من غزارة الطائرات التي لا أراها في سماء مدلهمة غادرها البدر، والتي يهرب كثير منها بعدما تتعرض لنيران المضادات الأرضية، التي لا أعرف من أين تنطلق بإتجاه السماء، فسرعان ما تتلاشى وتهرب تلك الغربان، كما تفر الشياطين بحضور الملائكة، الملائكة التي والله أراها تقاتل مع ثلة قليلة العدد ليس لها أن تنتصر، لولا وجود جيش رباني ملائكي يقاتل إلى جانبها، وإلا كيف لمائة مقاتل ونيف أن يحرروا مدينة عظيمة المساحة، كان الوجود الشيعي والكردي فيها، عسكرياً ومليشياوياً، على أشده، كالموصل الحدباء، لولا عناية الرحمن وقتال ملائكته إلى جانب جنده.. وكيف لثلة صابرة، مؤمنة، لا تتعدى عشرات المجاهدين، أن تسطر أروع الملاحم في تأريخ الحروب في تكريت أمام عشرات الألوف، فتقهر جيش الحشد الشيعي (جحش) ومن خلفه جيوش من المرتزقة، فلا يكون دخولهم إلى جزء من تكريت إلا بمعونة طيران (شيطانهم الأكبر)، الذي بات اليوم (ربهم الأعرى) من دون الله سبحانه وتعالى..!

وبين التردد في البقاء في دورية الشرطة وبين الذهاب لمكان آخر، في ليل كاد ان ينقضي نصفه الأول، قررت التوجه إلى المطعم الذي كان على مقربة من المكان، خصوصاً بعدما تغيرت بوصلة توجهي بعد ذاك الموقف، الذي رسم الكثير من الإستفهامات في ذهني حول شدة (الأهمال)، أو (الأمان) الذي إختلط عليّ أمر حابلهما بنابلهما في تلك اللحظة، ورأيت أنه لابد أن أبدأ رحلتي من الوقوف على أول (عثرة) أتعثر بها، أو (حسنة) أتفاخر بها في أرض الخلافة، والمتمثلة بترك سيارة في وسط الطريق، ومفاتيحها فيها، وصحفي بالكاد يعرفوه من كتابات مناصرة هنا وهناك، فالوقوف على دلالات هذا الموقف قد يرسم لي ملامح هذه الدولة ومدى جديتها في البقاء، ومدى حرصها على أموال المسلمين، خصوصاً أن مؤسسات الدولة الإسلامية كثيراً ما تردد هذه العبارة (أموال المسلمين) ويقيناً أن السيارة هذه، المرمية على قارعة الطريق، هي من أموال المسلمين، فكيف يستقيم حال المحافظة على (أموال المسلمين) وهي بلا راعٍ يرعاها، ولا عناصر أمن يحافظون على أمن ومصالح العباد فيها، حتى وإن كانت المعركة هي السبب في هذا الأهمال، إن كان إهمالاً بالفعل، فجبهة الداخل ليس بأقل أهمية من جبهات حدود دولة الخلافة الإسلامية، فالمحافظة على مصالح الناس ورعاية أمورهم، حتى بإحتدام القتال على الجبهات، هو من يزرع الثقة بين رعايا الخلافة وبين دولتهم، بل وبين رعايا الدولة وبين خليفتهم نفسه!

حملت حقيبتي على ظهري ثانية، وبيدي جهاز اللابتوب وكاميرتي، فضلاً عن طعام فطوري الذي احضره لي رجال الشرطة الإسلامية قبل ذهابهم إلى المعركة التي تسابقوا على الإلتحاق بها واتجهت نحو المطعم..

استئذنت منهم أولاً الجلوس في المطعم لتناول طعامي الذي كان بيدي، مؤكداً لهم أن مطعمهم هو مصدر طعامي تفادياً للأحراج، كوني لم اشترِ منهم الطعام بنفسي، فرد عليّ من كان يجلس خلف طاولة الحساب:

حتى وإن لم يكن الطعام من مطعمنا فمرحباً بك يا أخي، وأن لم تكفك الأرض وضعناك على رؤوسنا، فشكرت له عظيم كرمه، وهو ليس بغريب على أبناء نينوى!

وضعت حقيبتي بجانب إحدى الطاولات، وكان عدد الزبائن لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فالوقت بات متاخراً، وطيران العدو يحوم كخفافيش الليل ووطاويطها في سماء المدينة، والكل يخشى القصف والإستهداف لطائرات لا تفرق بين المدنيين والمجاهدين، فهي تنظر إلى كل من سكن الموصل إنما هو عدواً لها ومستباح الدم، تماماً كما ينظرون إليه إنه مستباح العرض والمال!

سألتهم عن أماكن المغاسل، حيث رغبت في غسل يداي ووجهي، فهناك الكثير من التعب على محياي، والذي نسيته، أو تناسيته في زحمة الأحداث المبهجة والمفرحة، والغريبة التي مررت بها حتى تلكم اللحظة، أشاروا لي إلى زاوية المغاسل، ذهبت إليها، فتحت ماء الحنفية، وبدأت أغسل في يداي، رفعت عيناي إلى المرآة، وجدتهما كقطعتي لحم نيئة من شدة إحمرارهما، تذكرت عدم سيطرتي على دموع عيناي في مواطن كثيرة من شدة تأثري بالمواقف، وقبل أن أغسل وجهي ومعه عيناي شرد ذهني وأخذت أفكر في شريط من الأحداث، فشعرت كإنني في حلم، وإنني ما أن أضع الماء على وجهي سأستفيق، فأجد نفسي في فراشي بأقصى شمال الكرة الأرضية حيث كنت، حينها ترددت من غسل وجهي خشية أن أستفيق من ذلك الحلم الوردي، حلم الخلافة، الذي لطالما عشته خيالاً ووهماً في ليالي لم أذق فيها طعم النوم، نعم هكذا كانت أحلامي، تأتيني وتراودني في صحوي قبل منامي..!

وأنا غارق في أفكاري تلك، مرّ بجانبي فتىً، يحمل مكنسة ينظف فيها أرض المغاسل، إلتفت إليّ مستغرباً سكوني وصمتي وتجهم وجهي في المرآة، فسارعت لسؤاله:

أين انا؟!

رد عليّ، وإبتسامة إستغراب تعلو وجهه الصغير:

بالموصل أنت عمي!

فضاعفت السؤال إلى سؤالين:

وفي أي منطقة من الموصل؟!

فأجابني وهو يمسح الأرض وعيونه صوبي:

هاي منطقة النبي يونس!

قلت لنفسي، وعيوني بإتجاه المرآة، وموجهة نحو ذلك الصبي الذي كان على مقربة مني:

نعم إنها الموصل، وكيف لا تكون الموصل، وكيف لا تكون منطقة النبي يونس وأنا الذي زرتها مراراً وتكراراً.. ثم بدأت في غسل وجهي، حيث تبدد الخوف كله بعد أول رشقة ماء خشيت للحظة أن اقضي بها على حلمي، فأستفيق على الثلوج وغابات أوربا من حولي!

عدت إلى طاولتي ففوجئت بإنها قد فُرشت بالكثير من المقبلات، وقناني الماء، مع إنني لم اطلب شيئاً، وكيف لي أن أطلب وفي الكيس الذي معي فطور يكفي لأشخاص، وليس لشخص واحد، فأشرت إلى الرجل الذي يجلس خلف طاولة الحساب لأبلغه بسوء الفهم الذي حصل، لكنه وكما يبدو عليه، قد قرأ افكاري، وفسر نظراتي، قبل أن ينطق لساني، قائلاً لي:

تناول طعامك حجي، بالعافية، وهذه المقبلات على حساب المطعم!

ما أكرمكم يا ابناء الموصل، وددت لحظتها أن اُنظّم قصيدة هجاء بحق كل من يتهمكم بالحرص أو بالبخل، فوالله إني لم أجد اكرم، ولم أرَ من هم أكثر طيباً منكم يا أبناء نينوى الأبية..!

شكرت له كرمه، وطيبه الذي ليس بغريب على أهل مدينة عانت كثيراً من حكم الشيعة والأكراد، حتى ظن جمعٌ من الناس أن الخير والبركة والطيب والكرم قد غادر هذه المدينة خضوعاً لواقع أليم مرير كانت تعيشه في ظل حكم شيعة الجنوب وأكراد الشمال، لكن، وكما يقول المثل العراقي (اللي بالجلد ما يغيرة إلا القبر) طيب أصل، وكرم أهل الموصل،هو لبٌ وليس قشر، لهذا لا يزيله حال شاذ، أو يسقطه عدو لئيم!

تناولت طعامي بهدوء وسط صخب عمال المطعم، الذين كانوا يتمازحون في آخر ساعات عملهم، غير مبالين بالعدد القليل من الزبائن، الذين كان بعضهم يتجاوب مع مزح العمال، فيضيف لجوهم ذاك نكهة بطعم الكباب الموصلّي الذي كنت اتذوقه في لحظتي تلك!

أنهيت طعامي، وطلبت قنينة ماء إضافية وحبة أسبرين لصداع أحسست إنه بدأ يهاجمني شيئاً فشيئاً، من شدة التعب الذي أنا فيه، فسارع الرجل الثلاثيني الذي كان يجلس خلف طاولة الحساب إلى إخراج شريط من حبوب الصداع وناولني إياه، اخبرته امتلاكي لعلاج خاص بصداع الرأس، لكني اضعه في مكان اجهله بحقيبتي، فرد عليّ، بعدما أحضرها بنفسه إليّ، إنه يمكنني الإحتفاظ بها، و(زيادة الخير خيرين) كما قال، فضحكت، وضحك لضحكتي، ورفض ثانية إستلام قيمة قنينة الماء الإضافية!

تركت المطعم وأنا اشعر إنني كنت ضيفاً على بدويٍ نحرَ على عتبة داره، وتحت قدمي، خروفاً، كتحية لي، فعجز لساني عن الشكر، فاكتفيت بالدعاء له ولمطعمه بالخير، جزاء كرمه وإحسانه!

وقفت أمام المطعم، بعدما سألتهم عن أقرب فندق يمكنني قضاء ليلتي فيه، فاشاروا لي بفندق يسمى (جوهرة الخليج) على ما أظن، فعزمت التوكل على الله والتوجه إليه، فأخذت أترقب سيارة إجرة للوصول إليه..

مرت دقائق وأنا اقف في مكاني، دون أن تقف سيارة لي، فكثير منها تكون مستأجرة حين مرورها، فالتفتُ إلى أحد عمال المطعم، كان متوقفاً أمام باحة مطعمهم، وسألته عن المسافة التي تفصلني عن الفندق، لأنني فكرت في السير إليه مشياً على الأقدام، فأكد لي إنها ليست ببعيدة، وبإمكاني السير على قدمي، حتى تلحق بي تكسي، لكنه أشار عليّ بأمر، تردد صداه على مسامعي، فأمسيت بين مصدق ومكذب، أهي مبالغة، أم سخرية يا ترى، وهو يقول لي:


إن مرت دورية لـ(الإخوة)، على حد وصفه، فأوقفهم، واطلب منهم إيصالك إلى حيث تريد.. ويقصد بـ(الإخوة)، المجاهدون!

فقلت له مستغرباً، وإبتسامة نصر ترتسم على وجهي :

(ماكو مشكلة يعني إن استعنت بهم للوصول إلى أي مكان)؟!

فرد عليّ مؤكداً إنه وحينما لا تتوفر السيارات، أو عند ندرتها، فإن الناس تلجأ إلى دوريات الدولة الإسلامية لتقوم بإيصالهم إلى وجهاتهم!!

شعرت بإبتسامة نصر، لأن هذه الإجابة كانت أولى الأجوبة التي جاءت كرد على أولى إستفهاماتي التي وضعتها، بعدما تغيرت خطتي بالكامل، والتي قررت على إثرها تغير وجهتي الإستكشافية داخل دولة الخلافة الإسلامية، حينما قررت سلك الطريق الذي يوصلني إلى (عدلت فآمنت فنمت)، فجلّ خوفي أن يكون (اهملت فتخبطت فخسرت)، فحينها لا مكان لي في هذه الدولة، بل وسأكون أول المحاربين لها، والداعين إلى زوالها، كما قال المتحدث باسمها الشيخ أبو محمد العدناني، يوم قال عنها وداعياً عليها: (إن كانت كانت هذه دولة خوارج، كما يصفونها، فاقصم اللهم ظهرها، ولا تقم لها قائمة)، وأما إن كانت كما عهدتها، فسأكون لها، كما كنت سابقاً، مناصراً، ومسانداً بقلمي، وبروحي وبدمي لو تطلب الأمر، حتى يظهر الله الحق، أو نهلك دونه!

وأنا أهم بالمسير نحو الفندق على اقدامي، سألت عامل المطعم نفسه عن قيمة الإجرة التي يتقاضاها سائق التاكسي إلى الفندق، فقد خشيت أن يستغلني أحدهم، كما تجري عليه العادة في كثير من بلداننا، التي تقوم على مبدأ إستغلال الظروف للحصول على القوت، فأجابني أن الأجرة ليلاً ونهاراً لا تزيد على الأربعة إلى الخمسة آلاف دينار عراقي، وقبل أن اتحرك بإتجاه الفندق توقفت على مقربة مني سيارة تاكسي، لينزل منها أحد الركاب، فسارعت للذهاب نحوها، فسألت سائقها إن كان يستطيع إيصالي إلى الفندق المقصود، فوافق دون تردد، وحينما سألته عن الإجرة مقدماً، ترك لي حرية تحديد المبلغ، ولأن هذه الكلمة مطاطية، وكثير منا يخشاها، حتى لا تصبح في نهاية المطاف أمام الأمر الواقع، فتدفع ما يريده السائق، شئت أم ابيت، لهذا فقد طلبت منه تحديد الإجرة قبل الذهاب معه، فقال لي:

ثلاثة آلاف دينار، وإن كنت أرى المبلغ كبيراً فسيقلني بلا مقابل، وأقسم على ذلك، فشكرته ووضعت حقيبتي على المقعد الخلفي وجلست بجانبه، وتحرك مباشرة بعدما قال لي:

مساك الله بالخير!

سِرنا نحو الفندق، وكان السائق يُكثر من الحديث عن كثافة الطيران هذه الليلة، ويخرج رأسه أحياناً من نافذة سيارته لينظر إلى السماء، رغم يقيني بإنه لا ولن يرى شيئاً، بعدما جاورت تلك الطائرات النجوم والقمر من شدة خوفها ورعبها من مضادات الطائرات التي تمتلكها الدولة الإسلامية، والتي اثبتت نجاعتها وفاعليتها، خصوصاً مع الطيران الشيعي والإيراني والعربي، فيما يطير بحذر الطيران الغربي وبإرتفاعات شاهقة، لأنه أكثر من يدرك معنى الوقوع بيد الدولة الإسلامية، فسقوط طيار واحد، كسقوط معاذ الكساسبة في يد الدولة الإسلامية، ويتم إحراقه بذات الطريقة، كفيل بأن يزيل عروش حكومات الغرب ويهدُّ أركان دولهم، لكن ما عسانا نقول لعروش عربية لا يهزها ولا يزلزلها إحراق جنودها وطياريها الذين ترسلهم لقصف المسلمين ولإحراق أطفالهم، فإن كان حرق جنود الحكومات العربية وطياريها لا يمنعها ولا يثنيها عن مواصلة استهداف أبناء جلدتهم من أهل السُنّة والجماعة، فحينها ليس للمسلمين الذين يُحرقون بصواريخ وطائرات الحكومات العميلة، وليس لجنود الإسلام الذين يسيرون على شرع الله، إلا أن يحرروا تلك البلدان من حكومات الرذيلة تلك، وإلا فلن يستقيم شرع الله بوجود هؤلاء الطواغيت، وما القادم من الإيام إلا سيراً على هذا النهج، بإذن الله تعالى، وتصميم على ما عزم عليه الرجال الرجال!

كان السائق يقول لي، وهو ينظر إلى السماء من شباك سيارته:

اليوم الجماعة (ماخوذين)!

أي إنهم كالكلب، حينما تدوس على ذنبه، بحسب هوى تفسيري للمفردة!

قلت له:

ولمَ.. ما السبب يا ترى!؟

رد عليّ:

حينما تراهم يملئون السماء فأعلم إنهم (ينسحلون) على الأرض!

إكتفيت بالقول:

بإذن الله، في حين كانت عيني تراقب وتستطلع الطريق من جانبيه.. كم تمنيت أن يكون سيري في الموصل نهاراً، فلكم اشتقت إلى كل ركن وزاوية فيها، ومع إن الإسوداد كان يحيط بكثير من زوايا الطريق، إلا إنني كنت أتلمس جمالها حتى عبر الظلام..!

وصلنا إلى أحد الجسور، فدخل سائق التاكسي بصورة معاكسة، فهذا الجسر للأياب وليس للذهاب، وما كنت اُميز ذلك لولا أن السائق نفسه أخبرني بذلك، فقلت له ألا تخشى أن يستوقفك أحد، فرد عليّ:

لا زالت هناك بعض المخالفات التي ما زلنا متمسكين بها.. يعني تستطيع القول (شوي شوي نتغير)، أي خطوة خطوة، وبالتدريج، ثم اعقبها بضحكة قائلاً:

تعرفُ طبع العراقيين!

ولأنني أعرف طبع قومي فما وجدت ذلك غريباً، لكني قلت له:

وماذا لو إستوقفك أحد رجال الشرطة الإسلامية، فرد عليّ ممازحاً بالقول:

سأقول لهم: أخوكم كردي.. ثم اعقبها هذه المرة بضحكة طويلة!

وهذا الرد هو في سياق النكت الساخرة بين العرب والأكراد، التي تعايشنا معها منذ صغرنا، فأهلنا الأكراد يمطرون إخوتهم العرب بكتب من النكات والدعابات الساخرة، فيرد لهم العرب الصاع صاعين من النكات، فيقلب الأكراد على العرب الطاولة بنكات أخرى مستحدثة، وحرب الدعابات والنكات هذه لا تنتهي لإنها من الموروث عند الطرفين، والذي لا يمكن الإستغناء عنه، إلا في حال تخلى الكرد عن كرديتهم، أو تخلى العرب عن عروبتهم، وهو ما لن يكون!

على الجسر أبصرت بناية كبيرة، تنتصب على حافة دجلة، نورها يشد الأبصار من بعيد، وكإنها فنار تهتدي به السفن، فسألت السائق عن هوية هذا البناء، فقال لي إنه بناية الفندق الذي اقصده.. شعرت حينها بنوع من الإرتياح، وبنفس الوقت من الخوف، فلربما يكون المبيت في هذا الفندق فوق طاقتي المادية، فكما ما يبدو عليه إنه فخم، وغالي الثمن، ولا أدري ما يخبئه لي الزمن إن صرفت ما بجيبي من أول لحظة وصولي إلى هذه المدينة، التي لا يزال الغموض يكتنف كثيراً من أركانها في ظل الخلافة نتيجة تعتيم الإعلام المعادي!

ما هي سوى دقائق حتى وصلت إلى الفندق، ودلني السائق على الباب، وقال لي:

إن كان الباب مغلقاً فهناك جرس بجوار الباب أضغط عليه وسيفتحون لك الباب حالاً..!

شكرته على كلماته، التي شاركته في كثير منها الضحك، واستغربت لهذه الروح الخفيفة التي يمتلكها، والتي بددت ما اشاعه الإعلام المعادي والمضلل من أن أبناء الموصل يعيشون في كمدٍ وخوفٍ ورعبٍ وحزنٍ لا يعرف به إلا الله والراسخون في العلم، وأن الفرح قد غادرهم والإبتسامة فارقت مضاربهم منذ أن حررت الدولة الإسلامية أرض الموصل من الاحتلال الشيعي والكردي لها، وكأن الشيعة الرافضة وعلمانيي الكُرد هم من كانوا يزرعون البسمة على شفاه الأطفال، وليسوا السالبين!!

المارة والسابلة في الشارع يكاد ينعدم وجودهم في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وحركة السيارات في الشوارع باتت ضعيفة، بل وضعيفة جداً، والهدوء يخيم على المكان ولا يقطع سكونه إلا صوت مولد كهربائي ضخم بجوار بناية الفندق، فضلاً عن أصوات الطائرات التي لا تغادر أبداً سماء الموصل!

امسكت الباب بيدي فوجدته مفتوحاً، فدخلت، واجهني سلم دائري أخذت درجاته بخطوات، واحدة أثقل من الأخرى، بعدما خاب أملي في قضاء ليلتي الأولى مع المجاهدين، فما أجمل لو إنني قضيت ليلة رأس السنة هذه بصحبتهم!

إنتهى السلم عند قاعة تتوسطها دعامة، وبجوار الدعامة حائط مستدير من الرخام ليشكل طاولة على شكل نصف دائرة، يضم جزء منها أجهزة كومبيوتر، وجهاز استنساخ..!

القيت على موظف الأستقبال السلام، ثم بادرت إلى وضع حقائبي على كنبة تقابل طاولة الإستقبال من زاوية أخرى..

كنت اتأوه وأنا أضع الحقيبة من شدة التعب والنصب الذي اصابني، فأسمعني موظف الإستقبال رده على السلام، ثم حمد الله على سلامتي!

وقفت أمامه، وضعت يداي على الحائط المرتفع، رميت بحمل جسدي على يداي اللتين أثنيتهما على طاولة الرخام!

كان موظف الشاب العشريني أو الثلاثيني، أو بين هذا العقد وذاك، أنيقاً، يضع نظارات، هي ربما للقراءة، أو لمشاهدة التلفزيون، كان يستكمل الحديث مع أحد الأشخاص ممن كانوا على حافة الطاولة بعيداً عن الطرف الذي كنت أقف بجواره، ولم تمضِ سوى بضعة ثوان حتى تفرغ لي، فقال لي مرحباً تفضل:

قلت: هل لديك غرفة فارغة؟!

فرد بالإيجاب.. لكنه أضاف بعد ذلك أن هناك مشكلة في هذا الأمر!

سألته عن المشكلة، فقال لي:

أن التعليمات تفرض عليه عدم إستقبال الزبائن العراقيين بعد الساعة العاشرة مساءً، وأن الساعة الآن شارفت على الثانية عشر!

فقلت له، وأين المشكلة في ذلك؟! أنت تتحدث عن العراقيين وانا لست عراقي!!

فضحك ضحكة بارزة، فلهجتي التي هي أقرب للبدوية، كما يصفها البعض من زملائي وأصدقائي، لا توحي على الإطلاق إنني أجنبياً، بل عراقي (خط ونخلة وفسفورة)، كما يقول أبناء العراق، و(خط ونخلة وفسفورة) كنا نطلقها على الأموال غير المزورة في زمن قبل الاحتلال، ثم انسحبت هذه التسمية من الأموال إلى كل ماهو (أصلي) بعدما أصبح ما حولنا كله مطلياً ومزوراً، حتى النخوة العربية التي كان يعوّل عليها البعض بوقوف العرب إلى جانبنا في حرب أميركا ضدنا، إذ أصبحت نخوة الحكومات العربية هي أبرز الأسلحة التي استخدمتها اميركا لحرقنا وإبادتنا، بالتعاون مع النخوة الشيعية المجوسية، والكردية المشهورة بعدائها للعرب، وسط لا حول ولا قوة للشعوب العربية والإسلامية المقهورة!

استخرجت جواز سفري الأجنبي ووضعته على الطاولة أمام موظف الأستقبال، وحينما تناوله بيده وفتحه قال لي:

(والله ظننتك تتشاقى)، أي ظننتك تمزح معي حينما قلت إنك أجنبي!

لم أرد عليه، بل تركته يقوم بإجراءات الحجز، فرغم أن الجواز قد حل لي مشكلتي، إلا إنني لا زلت انظر إليه على إنه لا يخصني ولا يمثلني، بعدما شعرت بفقدانه لقيمته ما أن وطئت قدمي أرض الخلافة!

أنتهى موظف الأستقبال من أجراءات حجز الغرفة، وسألته بعد أن انتهى من إستنساخ جواز سفري، وتثبيت الاسم في سجلات الفندق، عن سعر الليلة الواحدة في الفندق، كي أدفع له المال، فأعطاني وصل الحجز وقد كتب فيه خمس وثلاثون ألف دينار فقط، وهو ما يعادل تقريباً خمس وعشرين بالعملة الأوربية اليورو، وهو ما لم اتوقعه، فقد ظننت أن يكون سعر الليلة الواحدة في مثل هذا الفندق ما يقرب المائة يورو، لكنها الموصل، التي يتبدد فيها الوهم ويصبح حقيقة ما أن تلامس قدمك أرض مدينتها الحدباء، ذات الربيعين!

أعطيته المبلغ الذي كنت أراه زهيداً جداً مقارنة بما أراه، على الأقل من بناية وإنارة ونظافة، حتى خشيت أنه أعطاني سريراً في غرفة مشتركة مع آخرين، وهو ما لا أريده، ما جعلني استفسر عن هذا الأمر، إن كانت غرفة مستقلة، أم سرير بغرفة مشتركة، فابتسم لي وقال لي، بل غرفة يا اُستاذ، ثم نادى على شاب، لم يبلغ العشرين من العمر بعد، ليحمل أغراضي نيابة عني، فاكتفيت بالطلب منه حمل الحقيبة فقط، و(ستاند) الكاميرا الذي كان مربوطاً بالحقيبة من الخلف، فيما حملت اللابتوب والكاميرا بنفسي، وقبل أن نتجه إلى المصعد وأغادر قاعة الأستقبال خاطبني موظف الأستقبال بالقول:

اُستاذ، إن لم تعجبك الغرفة نستطيع أن نغيرها لك!

شكرته، ثم استقليت، مع الشاب، المصعد حتى الطابق الرابع، حيث فُتح باب المصعد على ممر ليس بالضيق، وليس بالواسع، وقبل نهايته من جهة اليمين كانت هناك غرفة، فتحها الشاب ودخل قبلي، ثم تبعته!

كانت الغرفة مفاجئة بالنسبة لي، فهي، وكما يصف والدي مثل هذه الحالات (تطارد فيها الخيل)، كناية إلى مساحتها الكبيرة، فقد كانت عبارة عن صالة واسعة مجهزة بتلفزيون يحوي جميع القنوات، بينها الرياضية المشفرة، ومن الصالة يتم الدخول إلى غرفة نوم مستقلة، تحوي ثلاثة أسرّة، مجهزة بفرش جميل، مع خزانة ملابس خشبية كبيرة، إلى جانب عدة حلاقة لمن يرغب، وفرشاة أسنان ومعجونها، وكل ما يتطلبه حال المسافر وعابر السبيل.. وإلى جوار الصالة كان هناك حمام مستقل، تم بناؤه على الطريقة الموصلّية، من الرخام، ومجهزاً بالمناشف الناصعة البياض، والدخول إليه يكون بعد إنتعال ما نسميه بـ(القبقاب)، وهو الحذاء الخشبي الذي يستخدم في الحمامات الموصلية العامة التي تنتشر في أحياء الموصل!

شكرت الشاب الصغير، ومنحته بقشيشاً، ولا أعرف إن كانت هذه العادة سارية هنا أم لا، خصوصاً إنه لم يطلب مني ذلك، لكني بادرت لذلك بحكم معرفتي بطبيعة العمل في الفنادق العراقية خصوصاً، والعربية منها بشكل عام، ولأنني صراحة أردت اكرامه، كعرفاناً ورداً للجميل، لما اكرمني به (المصالوة)، كما نسميهم في لهجتنا العراقية!

قبل أي شيء سارعت إلى فتح الشباك لعلني احظى بمنظر يشرف على مدينة الجهاد، الموصل الحدباء، خصوصاً إنني الآن في أعلى نقطة يمكن لي من خلالها إستشكاف المدينة!

كان الهدوء يخيم على كل شيء، ولم أكن أرى من ذلك المرتفع، (الطابق الرابع)، سوى مصابيح هنا، وأخرى هناك على مدّ البصر، بعدما توقفت المولدات الأهلية عن تزويد الناس بالكهرباء كوننا كنا في ساعة متأخرة، ومن عادة المولدات الكهربائية تجهيز المواطنين بالكهرباء لغاية الساعة الثانية عشر مساء، أو قبل ذلك بساعة في بعض المناطق، بحسب إتفاق أصحاب المولدات مع أهالي تلك المناطق، تحت إشراف مباشر من الدولة الإسلامية، التي هي من تتكفل بالمحافظة على ثبات الأسعار المعقولة، وعدد ساعات تجهيز الكهرباء، فضلاً عن التكفل بتأمين الوقود للمولدات..

عدت وأغلقت الشباك، على أمل أن استمتع بالمناظر في صباح اليوم التالي، فيما سارعت، بعد حمام سريع، إلى إداء صلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، كوني على سفر، انهيتهما بحمد الله وشكره على ما انعم به عليّ، وقرّ عيني بالوصول إلى أرض الخلافة، والسير على ثراها الطاهر، ثم جلست بعد ذاك اُشاهد القنوات التلفزيونية، وما يجري في ليلة آخر السنة، فوجدت أن جميع القنوات قد إنقسم حالها بين أمرين لا ثالث لهما:

القسم الأول من القنوات يغطي إحتفالات رأس السنة في مختلف انحاء العالم، وتتسابق هذه القنوات أيهما يغطي بشكل أسرع وأشمل تلك الاحتفالات، فلاحظت أن العرب كانوا أكثر إهتماماً بها من النصارى أنفسهم!

أما القسم الثاني، وتتزعمهم قناة (العربية) وقناة (الحدث) السعوديتان، فضلاً عن القنوات الشيعية الرافضية، والتي يتجاوز عددها المائة ويزيد، فقد خصصت سهرتها في ليلة رأس السنة للطعن بالمجاهدين والنيل من الدولة الإسلامية، والتغني بإنتصارات بني مجوس الوهمية في سوح الجهاد العراقية والشامية، ومن بينها الحديث عن معارك (تحرير) مدينة الگيارة والسيطرة على جسرها الرئيس، الگيارة التي مررت بها قبيل سويعات فوجدت فرسانها رجال الدولة الإسلامية يحكمون السيطرة عليها بقبضة جهادية حديدية، فأدركت حجم الإنحلال الإخلاقي لإعلام اليوم وبؤسه، وعلى رأسهم قناة (العربية)، التي توهمنا بإنها من تعرف أكثر، وهي لا تعرف شيئاً على الإطلاق، أو أنها تعرف، لكنها تحاول خداعنا، مع إنني اُرجح الثانية، فهذه النبتة الخبيثة، التي ولدت من نطفة حرام بعد الاحتلال الأميركي للعراق، إنما هي حصيلة زواج متعة أب خليجي (معس)، من أم شيعية مجوسية (إيران)، قبل أن تنجب للمتعوسين أخيراً قناة (الحدث)، التي فاقت في العهر اُمها، مثلما فاقت في الدياثة أباها!

أغلقت التلفاز، لإن صدمة كبرى تلك التي يكتشفها من رأى الحق بعينيه ثم يجد أبناء مهنته من الإعلاميين يزوّرون كل شيء، حتى الحقيقة التي لا يمكن تزويرها، وكنت أتساءل، ألا يعلم هؤلاء أن هناك اُناس يعلمون الحق ممن يسكنون ويقطنون في تلك المدن التي يصرّون على إنها اُستردت من قبضة الدولة الإسلامية، وأنها اليوم بيد هذا الطرف الشيعي الزنديق، أو ذاك الطرف الكردي الخسيس، في حين أن تلك المدن لا تزال تحت سيطرة رجال الخلافة الإسلامية، تساءلت، ترى كيف لهم أن يكذبوا لهذه الدرجة القبيحة التي لا يمكن فيها الكذب وإخفاء الحقائق، ألا يعرفوا أن الناس يعلمون بكذبهم، لكنها يا سادة نقطة الحياء التي سقطت من جبين حتى الطير الذي يمر من فوق مباني مثل هذه القنوات المريضة الموبوءة بكل ما هو دنيء ووضيع!

لجأت إلى الفراش واستلقيت على السرير، فيما كانت عيناي تتجول ما بين السقف والمراوح والجدران، وكإنني غير مصدق إنني في الموصل التي يقال عنها أنها مدينة الخراب والدمار، ثم أطوف بنظري إلى جهاز التدفئة الـ(سبلت) وهو يضطرني للنوم بلا غطاء في ليلة رأس السنة الباردة، وأقول لنفسي:

كيف يقولون عن مدينة حية هكذا إنها في عداد الأموات!؟

غلبني النعاس من شدة ما مررت به من أحداث لا تتكرر في حياتي بتلك السهولة، فأن تجد نفسك في أرض الخلافة، بعد هجرة إليها من مسافة آلاف الكيلومترات، أمتدت لليال وأيام طوال، ومعاناة تكاد تصل لدرجة القتل غيلاً، أو الإعتقال لأيام أطول من تلك التي إعتقلت فيها على الطريق والحدود، ثم ينتهي بك الحال في أرض الأحلام التي قصدتها، فإن ذلك والله لفي قاموسي حلم بعيد المنال، لكنه هاهنا الآن يتحقق ليصبح واقع ملموس، بعدما وصلت إلى أرض الجهاد، وأي أرض، أرض الموصل الحدباء التي لقنت المجوس درساً لن ينسوه على مرّ العصور، بل ومنحت كل مدارس العسكر والأركان مناهج جديدة ستظل تُدرّس في أكاديمياتها حتى يرث الله الأرض ومن عليها..!

ومن وسط نوم عميق استفقت لأجد نفسي وسط ظلام لم أرَ اشد منه عتمة في حياتي، فلا كهرباء، ولا نور، ولا أي شيء يشعرك بأنك حي، غير أنفاسي التي أخذت تعلو بعدما شعرت برعب كبير..!

لم أكن اخشى الظلام من قبل، ولم اخشاه يوماً، بل إني كنت ولا زلت اعدّه لي رفيقاً، بل وعالماً مستقلاً خاب وخسر من لا يستأنس برفقته، لكن ما ارعبني حد الجنون أن يأتي النور فجأة، أو احصل على الضياء، فأكتشف إنني في غرفتي في أقصى شمال أوربا، وأن كل ما مررت به ليس سوى طيف مرّ بي، أو حلم جميل..!

يا الله، أيعقل أن يكون ما أنا فيه الآن ليس سوى كابوساً، كيف..!! إني أتذكر إنني سرت في طريق، بل طرقات، وركبت طائرات، وقطعت مسافة أيام بالسيارات، واحتضنت المجاهدين واحتضنوني، وقبّلت رؤوسهم وقبّلوني، وتناولت طعامهم، نعم تناولت طعامهم، وكان كباباً موصلياً، وهاهو طعمه لا يزال في أنفاسي قبل فمي، ووصلت إلى فندق وو..!!

يا الله أيعقل أن كل هذا كان حلماً لا غير، وماذا افعل أن تبين أن كل ما مررت به ليس سوى وهم.. قفزت كالمجنون، ابحث عن الشباك لأتأكد، ولأثبت لنفسي إنني هنا، هنا في الموصل، وليس في بيتي بأوربا، قفزت مذعوراً نحو جهة الشباك، سقطت بين سريرين، نهضت، ثم قفزت ثانية فسقطت على حافة السرير الثالث، لم أكن أدري أين كنت أنام بالضبط، فأصبح حالي ككرة تتقاذفها الأقدام، يتلقفني سرير هنا، ويردني سرير هناك، ودارت بي الأرض ولم أعد أدري أين الشباك من الباب، وكنت كلما ظننت إنني وصلت إلى نافذة الشباك اكتشف ضعف ذاكرتي بعدما اُمسك بشيء آخر!

وبعد دقائق طويلة، رأيتها كشوطي مباراة نهائية في دوري عالمي ينال فيه السرير الفائز جائزة كبرى لما يحدثه بي من أضرار وكدمات وجروح، فلم اشعر إلا ويدي تقع على الشباك، فحمدت الله، لكني وما أن فتحت الشباك حتى وجدت أن الظلام قد إزداد، فاكفهر وجهي الذي يغشيه السواد، إذ تبين لاحقاً أن هذه ليست سوى النافذة التي كانت تفصل غرفة النوم عن الصالة الرئيسية.. حاولت إمساك الجدار والسير معه، فظهر لي إنني امسكت، في نهاية مطاف سيري، بخزانة الملابس الخشبية، التي تقع تماماً في الجهة الأخرى من غرفة النوم، والمقابلة لنافذة كنت أحاول الأمساك بها بطريقة إمساك الماء بغربال..!

عدت ادراجي وقصدت الجهة الأخرى حتى يسر الله لي، بعد عثرة هنا، ودحرجة هناك من الوصول إلى النافذة، التي ولولا دخول تيار هوائي بارد منها بعد فتحها، لما عرفت إنني اُطل على مدينة الموصل، بعدما انطفأت حتى المصابيح التي كانت متناثرة هنا وهناك خارج الفندق، والتي ابصرتها آخر الليل.. تذكرت حينها هاتفي، فوجدت فيه حبل النجاة للتأكد من إنني هنا، وليس في مكان آخر، وبعد جولة بحث امتدت لقرابة الربع ساعة تمكنت من العثور على هاتفي الذي لم استخدمه لإنارة المكان، بل للتيقن من إنني في فندق في الموصل، وإنني لم أكن في حلم ووهم وخيال!

كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً بقليل حينما استيقظت لأعيش كابوس الوهم هذا، وبعد الإنتهاء منه، وتأكدي إنني هنا بالفعل في أرض الخلافة، حاولت العودة إلى النوم ولكن دون جدوى، فما أشد رعب أن افقد ما أنا فيه، حتى ولو عبر حلم ووهم وكابوس، فكيف لمن يسر الله له دخول الجنان أن يفكر بالعودة إلى النيران، فحياتي خارج أرض الخلافة، مهما بلغ عظيم شأنها، ورغد عيشها، وطيب ثراها لا تعدل عندي لحظة واحدة أقضيها فوق أرض، وتحت سماء يحكمها شرع الله حقاً، وحراس حدودها وعقيدتها اُسود جهاد، وخليفتها، إن رأيناه قد حاد عن الدين، لا سمح الله، خرجنا عليه بالسيوف وقوّمناه!

أقبل الفجر، وغزل الصباح من خيوطه سجادة موصلّية، وكبّر المنادي أن الصلاة خير من النوم، فوددت الرد عليه من نافذتي لأقول له: ومن أين لي النوم وأنا اترقب أول صباح لي في أرض الخلافة، فلبيت النداء، وصليت، ثم تجهزت لمنظر شروق الشمس، فخذلتني الشمس مجبرة، بعدما غطتها سحب الغيوم، التي شكلت عازلاً بين جنود الرحمن وبين طائرات الحلف (الغربي – العربي – الإيراني)، التي حيدتها ملائكة السماء، كيف لا، ولله جنود لا نراها، تقاتل مع خندق الحق ضد جمع الأحزاب..!

تسمّرت عند نافذتي وأنا أرى أولى ملامح الحياة تدب بعد ليل طويل، لم أذق من ساعات نومه إلا النزر اليسير، حيث بدأت جموع الناس تملئ الشوارع والأزقة والطرق الخلفية والحارات، أصحاب المحال فتحوا ابوابهم، أصحاب (الچنابر) و(البسطيات) إفترشوا الأرض، والمتبضعين شكلوا كتلاً بشرية تزدحم في هذا الشارع وذاك، والسيارات من ضخامة اعدادها ما عادت تتسع لها الشوارع، وتبدل هدوء الموصل إلى ضجيج يصمُّ الآذان، فهذا ينادي على خضرته، وذاك يمازح صاحبه، وثالث يبيع حلوياته، وآخر يُبشر بمستقبل من تذوق مشروباته الغازية، وموقف السيارات الذي قبالة الفندق أصوات سائقي سيارات إجرته يهز صداها أرجاء المكان، وكل واحد منهم ينادي باسماء المناطق التي يعملون على خطوطها!

نعم، هذه هي الموصل التي أعرف، مدينة حية، لا تعرف الموت، ولا تعرف الهدوء، ولا تعرف الخمول، الموصل التي هي عصب إقتصاد العراق كله، فمنها تتغذى بغداد، وعبرها بضاعة العراق كله تتوزع، واليوم تمارس ذات الدور بسيطرتها على مفاصل إقتصاد دولة الخلافة الإسلامية، وها هي أسواقها، رغم الحصار (الشيعي - الكردي)، غارقة بمختلف أنواع البضائع والمنتوجات والخضار والفاكهة!

سارعت إلى إرتداء ملابسي، وحملت حقيبتي ،وبقية أغراضي، واتجهت إلى صالة الإستقبال في الفندق، وقبل أن اُسلّم المفتاح سألت موظف الإستقبال عن مكان اُصرّف فيه العملة، فما معي من العملة العراقية يكاد ينفذ، وليس معي سوى عملة اليورو، فخشيت أن لا أجد من يتعامل بها في دولة يحاصرها الغرب والشرق، فضحك موظف الأستقبال وقال لي:

هنا كل شيء موجود، ليس اليورو فقط، بل أي عملة ترغب في تغيرها فستجد بباب فندقنا فقط، وبجواره عشرات مكاتب الصيرفة، التي ترحب بك!

سرّني كلام موظف الأستقبال لإنني اُدرك أن الإقتصاد يرتكز عموده على العملة الصعبة لأي بلد، وهي مقياس التضخم في هذا العالم الرأسمالي الذي يحكمنا ظلماً وعنوة!

سلمت مفتاح الغرفة إلى موظف إدارة الفندق، ولم أبلغه حتى سبب عدم تنبيهي إلى قطع التيار الكهربائي وإطفاء المولد ليلاً، فقد كنت في عجلة من أمري لأقوم بجولة في أسواق (حبيبتي) التي مزّقني الشوق إلى شوارعها المفعمة بالحياة، فغادرته بعد السلام، وما هي سوى دُريجات سلم حتى وجدت نفسي في قلب الزحام، أمام باب الفندق، فأخذت أسير وأتلفت شمالاً ويميناً، وقطرات خفيفة من أمطار الخير تنهال من السماء لتزيد من جمال جو الموصل الآخاذ جمالاً، وتزيده سحراً!

980987678_small.jpg

كنت جائعاً وأرغب في تناول فطور الصباح، أو كما نسميه بالعراقي (الريوگ)، لكنني ومن شدة فرحي بهذه المناظر، وهذه الحركة الكثيفة للناس قد شبعت، وكنت اتساءل مع نفسي، كيف يقول هؤلاء الأفاكين أن الموصل قد فرغت من سكانها!!

الآن قد فهمت المعادلة، فعلى ما يبدو أن من غادر الموصل وتركها إنما هو من أجرم بحق أهلها، وخشيّ على نفسه من العاقبة بعد التحرير من الشيعة والكرد، ويقيناً أن هؤلاء الفارين كانوا من الخونة والمرتدين والعملاء والأذناب..

أو أنه ممن رفض العيش تحت ظلال دولة العدل الألهي، وبدستور الإسلام الذي كفل لكل من عاش تحت كنفه حقه في العيش والحياة من الديانات الأخرى، وما الوثيقة العمرية إلا خير شاهد على عدالة الإسلام التي لا يريد أن يخضع لبنودها ألد الخصام..!

فيما ينفطر قلبي على من غادر مدينته الجميلة طوعاً تحت ضغط الإعلام الشيعي – الرافضي – الإيراني – الكردي – الخليجي، الذي يهدد ويتوعد بإبادة وتطهير الموصل من أهلها، أبناء السُنّة والجماعة، ولكن خاب وخسيء فأل من هدد وتوعد، فما رأيته في الحدباء يجعلني على يقين وثقة بالله أن الموصل أبداً لن تعود لأحضان رافضية أو سلطة كردية!

فجأة، وبدون مقدمات قررت إنهاء جولتي في السوق، فما رأيته في دقائق أثلج صدري وأجاب على كل إستفهاماتي وزادني إطمئناناً على الجانب الإقتصادي للدولة الإسلامية، فحينما تكون الموصل عامرة هكذا بسكانها وبأسواقها فبقية مدن الخلافة لن تكون إلا بخير، فحينما يكون القلب سليماً فأعلم أن الجسد معافى، مهما كثرت الميكروبات والجراثيم من حوله..!

قررت المضي قُدماً في البحث عن إجابة لذاك السؤال، الذي بقي عالقاً في ذهني، راسخاً في عقلي، والذي عززه الآن هذه الكثافة البشرية التي تملئ أسواق وطرقات الموصل، فكيف يترك رجال الشرطة الإسلامية سيارتهم على قارعة الطريق ومفتاحها فيها، لتكون محل سيلان لعاب أي سارق عليها، فإن كان إهمالاً فسأجد إجابته عند القضاء، وإن كان أماناً فساجد إجابته عند القضاء كذلك، من هنا كان قراري في أن تكون وجهتي التالية هي دار القضاء، فإن صلح العدل والقضاء ساد الأمن والرخاء، وأن فسد القضاء تفشى المرض والوباء والأهمال، نعم، فعند القضاء الخبر اليقين، فهو من سيجعلني اُكمل رحلتي في دولة العدل لأعيش في ظلال رحابها وأخدمها، وأفديها بروحي، أو أهرب مد البصر من ظلمها وجورها وفسادها!

وقفت على ناصية الطريق، لأستأجر سيارة، وقبل أن اُلوح بيدي، انتظرت قليلاً، فلا أريد أن استقل سيارة حديثة، بل كنت أبحث عن سيارة، ليست تكسي أولاً، بل خصوصي، وتكون قديمة ثانية، لأن مثل هؤلاء يصعب عليهم منافسة التكسيات الحديثة التي كانت تملء الشوارع، وبعد دقائق إنتظار، أنار لي أحد أصحاب السيارات الخصوصي مصابيحه الأمامية، كدلالة عندنا من السائق في العراق ليقول إنني أعمل تاكسي، وإن لم يكن تاكسي، وكانت سيارته قديمة الطراز، لم اُركز على نوعها، لكني أظنها (سبعينية) أو (ثمانينية) الموديل، أشرت لصاحبها الخمسيني العمر، فتوقف..

سلمت عليه أولاً.. فأجابني بالرد العراقي الشهير:

عليكم السلام أغاتي..

سألته أن ياخذني للمحكمة، فرد على سؤالي بسؤال:

أي محكمة عيني..؟!

حينها رفعت رأسي قليلاً لأفكر، قبل أن أعود وأخفضه من زجاج السيارة ثانية، لأسمعه ويسمعني، من شدة الضوضاء التي تجعلنا نتحدث بصوت عالٍ:

لا أدري، أريد أكبر محكمة في الموصل.. هكذا اجبته، إذ لم أكن ابحث عن محكمة بعينها، لكني أبحث عن دار القضاء، وكنت لا أعرف أي تسمية يطلق أبناء الموصل على قضائهم الجديد، فأجابني واعداً إياي بإيصالي لمبتغاي:

ماشي، سأوصلك للمحكمة الكبرى!

احسست إن هذا ما كنت ابحث عنه فقلت له:

وهو المطلوب..!

صعدت مباشرة معه، دون أن اسأله كم سيتقاضى مني، إذ لم يعد يهمني حينها ما سيطلبه مني، فقد أصبحتُ، أريد، وبأي ثمن، الحصول على إجابة لتساؤلاتي!

إنطلق سائق التاكسي وسط زحام شديد، وراح يراوغ بين السيارات، ليثبت لي ربما، إنني لن اندم على إستئجاري سيارة قديمة، فطلبت منه التروي قليلاً، إذ ابلغته إنني لست في عجلة من أمري، ربما لإني أريد أن أتامل الطرقات، وما نمر به بسيارتنا، ذات الموديل النادر من فرط قدمها، فراح السائق يؤكد لي أن هذه محاولات للتخلص من الزحام ليس إلا!

ركزت على الطريق،  بالفعل كان الزحام على أشده، خصوصاً على الجسر الذي قطعناه، وأعداد السيارات لا توحي لك على الإطلاق أن هناك أزمة في الوقود، كما هو حال باقي مدن العراق، التي لم تتمدد إليها الدولة الإسلامية بعد، وهذا كان مدخل أول أسئلتي للسائق، حيث سألته عن حال وأسعار وقود السيارات، فأكد لي أن ثمنه مناسب، مقارنة بمحافظات أخرى، وهو ما دفعني لتوجيه السؤال الثاني، والذي جعلته في ذات السياق، من أين مصادر الوقود، ولماذا هي مناسبة مقارنة بغيرها من مدن العراق، فكشف لي أن المصافي البدائية التي لجأت إليها دولة الخلافة حلت جزءاً كبيراً من الأزمة، سواء بالنسبة للنفط، أو البنزين، أو الكاز، حيث باتت هذه المنتجات الثلاثة متوفرة بكثافة نتيجة عمل (الفرازات)، كما يطلق عليها، والمنتشرة في مختلف انحاء الموصل، بالإعتماد على النفط الخام الذي توفره الدولة الإسلامية لتلك المصافي البدائية، سواء التابعة للدولة الإسلامية، أو الأهلية منها، إلى جانب تأكيد السائق على عمليات إستيراد من ولايات أخرى من الشام، أو من خارج حدود دولة الخلافة لبنزين محسن بأسعار أعلى قليلاً!

وقبل أن أواصل اسألتي بادرني السائق بالقول:

يبدو أنك (خطار) على الموصل، أي ضيفاً عليها.. ثم استطرد:

واضح عليك أجنبي، وشكلك لا يوحي بإنك من أهل الموصل!

الحق أقول إنني امتعضت في داخلي حينها من سؤاله، كوني، ورغم سنين الغربة، أحاول أن تبقى هيأتي شرقية، بل وبدوية حد النخاع، وأن لا اتطبّع بمن حولي، ما جعلني اجيبه وداخلي يغلي:

وهل شعري أشقر وعيناي زرقاوان!؟

فرد علي بصيغة الإعتذار:

لا عفواً، ولكن ما أعنيه معك حقائب، واسئلتك لا توحي بأنك من أهل الموصل!

تذكرت حينها إننا، هنا في بلادنا، كثيراً ما نشير إلى الغريب بإنه (أجنبي)، لمجرد كونه من محافظة أو مدينة أخرى، فهدئ روعي قليلاً، قبل أن اُمازحه بإجابتي:

نعم أنا أجنبي من الأنبار!

فضحكنا سوية، وسرعان ما بادرني بسؤال آخر عن سبب مجيئي إلى الموصل، فأبلغته بإنني (صحافي)، واكتفيت بهذه الإجابة المقتضبة، التي جعلته يستدير نحوي لولا المقود والمقعد اللذين يقيدانه، حيث سألني مستغرباً:

وأين تعمل؟!

أجبته بإنني صحافي مستقل، وكنت أعمل يوماً في الموصل كمراسل لعدد من القنوات، وذكّرته بتقارير خاصة بالموصل، كنت قد عرضتها في عدد من القنوات، فتذكر بعض من تلك التقارير، وقبل أن نستكمل حديثنا توقف بجانب إحدى البنايات قائلاً لي:

هذه هي المحكمة الكبرى يا اُستاذ!

سكنتُ للحظات، وبقيت أتأمل في واجهة البناء الذي تعلوه الراية المحمدية.. كُتبَ على الواجهة: (المحكمة الإسلامية).. انقبض صدري، قلبي أخذ ينبض بشدة من شدة الفرحة التي كتمتها بداخلي، فهاهي أولى مؤسسات دولة الخلافة التي أراها، يا لتحقق الحلم، يا لفخامة الإسم، (المحكمة الإسلامية)، ويا لجماله، ويا لبلاغته، لكن بقي شيء واحد يجب أن استشكفه وهو ما أنا هنا لأجله وهو: (يا لعدالته)، فهنا مربط الفرس كما يقال، فعند الإمتحان يُكرم المرء أو يهان، وعند العدالة تنهدم صروح أو تُقام!

وضعت في يد السائق خمسة آلاف دينار، حاول أن يعيد لي منها شيئاً، فرفضت، ثم شكرته وأنا أترجل، وقبل أن يغادرني، وكلمات الدعاء لا تفارق شفتيه، سألني آخر أسئلته:

يا اُستاذ، حينما أعود لعيالي سأقول لهم إنني التقيت بصحافي هذا اليوم وركب معي.. فمن أنت لأخبرهم باسمك!

أجبته بإبتسامة:

حسين المعاضيدي!

غادر السائق، فيما وضعت حقيبتي على ظهري، والتقطت كاميرتي وحاسوبي من على الأرض بعدما أنزلتهم من السيارة فرادى، وحينما التفت إلى جانبي وجدت لوحة عرض إعلاني ضخمة بجواري، طولها يتجاوز الأربعة أمتار، وارتفاعها بحدود الثلاثة أمتار، محمولة على أعمدة حديدية، تحمل صورة لجندي من جيش الخلافة وهو يدوس بقدمه مجموعة كتب، تمثل الدساتير الوضعية، في بلاغ صريح،وفصاحة ما بعدها فصاحة، لا خجل فيها، ولا مداهنة، ولا مواربة، في أن شرع الله هو من يُقام، ولو على الجماجم والأشلاء، وبقوة الحديد والرصاص والنار، فلا حكم يسود غير دستور الله، ولا صوت يعلو فوق صوت الخلافة!


حسين المعاضيدي

******************************

هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي

b9vaj5iiiaamjxn_small.jpg

الحلقة الخامسة

يظن بعض الإخوة إن التأخير في نشر الحلقات هو لسبب ما يتعلق بضيق الوقت، أو لسبب آخر من منغصات الحياة..
لهذا أقول، كنت أتعمد تأخير كل جزء، ليس إهمالاً، ولا مبالاة مني، أو عدم إكتراث لأهمية ما اكتب حوله، بل لأني أنتظر ردود أفعال القراء حول ما مررت به، فإن وجدت ما أقوم بعرضه يأتي بالسلب من قضيتي، أو منهجي، أو أن يكون خنجراً مسموماً، لا سمح الله، في ظهر المجاهدين لأتوقف عن الكتابة في الحال وأعتذر لتيجان الرؤوس، فما أنا هنا إلا لخدمة المجاهدين ولتبيان الحق، فإن جاءت سهامي في غير موضعها فلا خير بي حينها، ولا بارك الله في قلمي، ولا في مسعاي!

فهيا إحزموا أمتعتكم معي وشاركوني الدخول إلى محكمة ليس من السهل أن تعيشوا أجوائها وتفاصيلها التي ما تزال خافية عن الكثير!

وقفت هناك، عند اعتاب المحكمة الإسلامية في الموصل الحدباء، الموصل التي جعلت العالم يقف على رؤوس أصابع أقدامه منذهلاً، من هول المفاجئة العظمى التي اطاحت بعروش الشيعة، حينما وجدوا انفسهم، ليس بين ليلة وضحاها، بل بين ساعة ودقائقها مشتّتين، مشرّدين، (مسطورين)، كما نقول بالعراقي، من شدة هول الصدمة التي تعرضوا لها على أيدي المجاهدين، بعدما اُصيب جسدهم، السقيم أساساً، بسكتات دماغية وقلبية مزدوجة أتت على ما تبقى من أفئدة خربة معتلة وعقول خاوية جوفاء، لتجسد على أرض الواقع المعنى الحقيقي لمصطلح (الصّدمة والترويع) وبكل أبعاده الزمانية وحيثياته المكانية..!

كنت انظر في كل زاويةٍ وصوب كل إتجاه، اتأمل كل التفاصيل، الصغيرة منها والكبيرة، فاحياناً أجد في ثنايا التفاصيل الصغيرة ما يثير حفيظتي الصحفية أكثر من التفاصيل الكبيرة وتشابكاتها التي تضيع في وسطها وبين خفاياها الجزئيات، والتي أحياناً تكون هي جوهر الأشياء..

هناك، وقفت اتأمل تلك اللوحة الكبيرة التي نُقش عليها (الدساتير الوضعية تحت قدمي) والتي تسطّرت تحت حذاءِ رجل من جنود الخلافة الإسلامية..

تمنيت لو إنني كنت استطيع حمل كاميرتي وإلتقاط صورة لهذه اللوحة، أو لأي مَعلمٍ آخر، لكني حتى تلك اللحظة تجنبت التعامل مع الكاميرا حتى يكون عندي إذن بذلك من جهة مسؤولة، فلا أزال لا أعرف القوانين الداخلية للدولة الإسلامية، ولا اريد لأي شيء أن يعكر صفو رحلتي هذه، رغم أهمية الصور في مثل هذا الأمر، خصوصاً أن رحلتي أردت لها أن تكون توثيقية بالدرجة الأساس..!

إقتربت من باب المحكمة، وقبل أن أهم بالدخول، شدّني منظر حراسها المرابطين في شارع فرعي أمام المحكمة، والذي يجاوره الشارع الرئيس الذي تسلكه السيارات الذاهبة والآيبة من أمام المحكمة..

كانت القطعة الكبيرة التي كُتب عليها اسم المحكمة (المحكمة الإسلامية) تجعلك تشعر إنك في عالم آخر، فهناك استحضرت زماناً غير زماني، وعالماً غير عالمي، واُناساً غير الذين عرفتهم طيلة حياتي السابقة، وقفت قبالة المدخل الأمامي بالضبط، ناظراً تارة بإتجاه القطعة الكبيرة، التي تزيّن بناية المحكمة، وتارة اُنظر إلى تلك اللافتة الكبيرة المنتصبة بجانب المحكمة، والتي باتت في زاوية أخرى على يميني، تلك التي تدوس فيها قدم مجاهد كل الدساتير الوضعية، ليخبرا المار من هنا، أو الداخل إلى المحكمة، أن لا حكم بعد اليوم في أرض الإسلام إلا حكم الله، ولا دستور غالب إلا دستور رب الأرض والسماء.. وحينما أشحت بنظري إلى شمالي أبصرت الحراس، وأبصروني، فخاطبني أحدهم قبل أن أخاطبهم:

تفضل يا أخ، هل من خدمة نؤديها لك!؟

أجبته:

أبحث عن المحكمة الإسلامية!

كنت أظن إنهم سيقومون بتفتيشي، وتفتيش محتوى حقيبتي، كوني قد دخلت ربما إلى دائرة أمنية، لكنه رد عليّ، بعدما نظر بعينه إلى القطعة التي تعلو بناية المحكمة وتشير إلى اسمها، فقال متبسماً، وكإنه يقول لي، كل حجم هذا الاسم ولا تراه:

قد وصلت.. ومرحباً بك!

كانت كلماته على قلة عددها وبساطتها، إلا إنها كانت أعقد لي من خارطة سايكس وبيكو لحدودنا، لكني وجدت إجابته الثانية، حول سؤالي عن مكان وجود القاضي، سهلة وغير مركبة، كبساطة إزالة حدود سايكس وبيكو بجرافات الدولة الإسلامية، حيث قال لي:

القاضي في الداخل، تفضل واسأل الإخوة في الداخل، وهم سيرشدونك إلى المكان الذي تريده..

قالها هكذا، وبكل بساطة، فلا شيء مما كنا نسمعه عن إرهاب وخوف يتملّكنا ونحن نقترب من دوائر الدولة الإسلامية ومؤسساتها الوليدة، ولا رعب أو رعشة أو رجفة تمسك بتلابيبنا ونحن نتحدث إلى أحد رجال الدولة الإسلامية..!

أثناء وقوفي وحديثي مع الحراس الأربعة للمحكمة الإسلامية راحت ذاكرتي تستعرض في لحظات كل ذلك الكم الهائل مما يقال عن حجم (إجرام) الدولة الإسلامية، وإبتعادها عن (الإسلام الحقيقي)، وعن دستور الله، سبحانه وتعالى، كما تروّج لذلك أنظمة الحكم العربية والعالمية، التي جعلت من (جون كيري) هو خطيب المنابر في بعض بلداننا الإسلامية، ليعلمنا الإسلام المعتدل، الذي يرضي أميركا والغرب وحكام العرب المعيّنين بقرار (بنتاغوني)، وممهور بختم البيت الأسود الأميركي من خلف سبعة أبحر..

ذاكرتي التي تسرق مني لحظات التركيز باتت تطرح إستفهامات تفقدني فيها التركيز، إذ أخذت تنغز بي كإبرة صينية، وأنا اقف مع الحراس أمام باب المحكمة، متسائلة إن كانت هذه المحكمة ذات عدل إلهي، تحكم، بالفعل، بشرع الله، أم إنها ديكور، ليس إلا، لدولة وليدة ترفع شعار (إن الحكمُ إلا لله)!!

كان حراس المحكمة يقفون ويتحدثون إلى بعضهم البعض حينما قاطعتهم، كانت لهجتهم الموصلّية هي الطاغية في الحديث، فبعض الكلمات والمصطلحات لأبناء هذه المدينة تفرض نفسها وتصل إلى مسامعك من مكان بعيد، تماماً كرائحة الكباب الشهي الذي قدمه لي ذلك المجاهد، في تقاطع النبي يونس، لحظة وصولي إلى أرض نينوى..

أما من تحدثت معه وتحدث إليّ فلم يكن من أبناء الموصل، بل جزّراوي حدّ النخاع، أو هكذا خمّنت، فلم اسأله عن أصله، ولا نقبت عن فصله، لكني شممت فيه عبق ورائحة الجزيرة، وفي عينيه لاح لي بريق الحرمين، وفي لسانه ومخارج ألفاظه وجدت سحر نجد وحايل الحجاز..

كان هناك من يقول لي دائماً، حبذا لو حدثتنا بلهجتك العراقية، ففيها سرٌّ وجمال، لكني كنت أرى لهجتي العراقية، التي هي في عيون البعض معزوفة موسيقية لم يصغها فنان، كنت أراها، ولا زلت، لا تمثل شيئاً أمام سحر وعذوبة لهجة أبناء جزيرة العرب!

بقي جميع الحراس صامتين، حينما اخذت اسأل والمجاهد الحارس يجيب..

لم يكن الحديث طويلاً، فانا، رغم رغبتي في الحديث إلى المجاهدين، إلا إنني كنت متلهفاً لدخول المحكمة، والوقوف على أبواب التاريخ الجديد، الذي تكتبه ثلة جهادية جعلت لنا من أرض الخلافة قبلة مكانية، زيارتها والهجرة إليها واجب كل مسلم اليوم، في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يغنينا عن زيارتها إلا حج بيت الله الحرام، وأقصانا السليب في قدسنا الأسيرة..!

وأنا أتجه إلى داخل المحكمة، جاءني تساؤل من الخلف، فتوقفت، وكان ذات المجاهد الجزّراوي من سألني، فكلماته لا تكشف عن هويته فقط، بل وتجعلني أتمنى لو اُقبّل الأرض التي تدوسها قدمه، فالعزُّ كل العزّ، أجده في تقبيل الأرض التي تطأها وتدوسها أقدام المجاهدين!

قال لي:

من أين أنت يا أخي!؟

لم يكن السؤال هو من موجبات وأسياسيات عمله، وإلا لكان قد سألني إياه حتى قبل أن يدلني على كيفية الدخول إلى المحكمة والوصول إلى القاضي، فأيقنت أن الإستفهام من باب الفضول وحب معرفة الشيء، تماماً كفضولي الصحفي الذي يطغى على كل أشيائي الأخرى، فضول جعلني اتبع سهام الباطل لأعرف منها أين يوجد الحق، وهو ذات الدافع الذي جاء بي من آخر الأرض إلى أخطر بقعة على ظهر الكرة الأرضية، كما يوصّفها، ليس الإعلام فقط، بل وكل العالم من حولنا:

أجبته، بعدما استدرت إليه بكامل جسدي:

جئت من أوربا!

فأبتسم ضاحكاً ثم أعقبها بالقول:

خمّنت ذلك!

قلت، وبإستفهام صريح، وعقدُ حاجبين، أو هكذا تصورت قسمات وجهي:

كيف عرفت؟!

ردَّ عليّ:

كاميرتك ونوعها تتحدث بالنيابة!

وهنا أخذت انظر إلى كاميرتي، التي كنت أحملها في إحدى يداي، فيما كانت اليد الأخرى تحمل حاسوبي (اللابتوب)، رفعتها بيدي للأعلى قليلاً، وأخذت اتفحص حقيبتها، رغم إنها معي منذ سنين، ضحكت، وقلت له:

أنا صحفي وهي سلاحي، مثلما سلاحك معلقٌ في كتفك، فأخذ ينظر هو بدوره إلى بندقيته، وتبادلنا الضحكات، ثم غادرته، متجهاً إلى داخل المحكمة، شاكراً له ترحيبه الحار حينما اسمعني كلمة ترحيبية في ظهري وهو يقول:
(مرحباً بالإعلاميين)!

إلى بطن المحكمة الإسلامية كانت وجهتي التالية، فتخيلت لوهلةٍ إنني سأكون في قاعة لا يجلس فيها سوى القاضي، وبعض الملتحين من رجال الدولة الإسلامية، و(الفرّاش)، أي عامل التنظيفات المكلف بمسح أرضية المحكمة، وكراسي ومقاعد فارغة لا تزال جديدة، كون لا أ حد يجلس عليها إلا ما ندر، فالمحكمة الإسلامية في نظر كثير منا، نتيجة الكم الهائل من الإعلام المزيف، الذي يضحك على عقولنا نحن السُذج، قد رسم تلك الهالة الضبابية في مخيلة كل منا.. لكني أبصر هنا، وأنا اقف الآن عند مدخل المحكمة، قاعتها وهي تعج بالكثير، نعم لم اُشاهد نساء، لكني وجدت كثير من الناس من غير الملتحين، ووجدت كثير من الشباب المتواجد بداخلها يرتدون البنطال، ويلبسون الجينز والتيشيرتات، فضلاً عن الدشاديش (الجلابيات)، فكيف يقولون إذن أن كل هذه الملابس باتت محرمة في (أرض الإرهاب)، كما يسمونها!! لكن الإستفهامات تتضح حينما تذكرت كيف إنهم يروجون لأكاذيب وإفتراءات حُرمة وضع الطماطم (البندورة) مع الخيار في كيس واحد، كون الطماطم مؤنثة والخيار مذكر، وكيف أن الحلاقة ممنوعة في أعراف وقوانين المجاهدين، والأمر ذاته ينطبق على حُرمة جلوس النساء على الكراسي، كون ذلك لا يتوافق مع الشريعة، بحسب قول الإعلام المسخ، الذي يصور لنا أن المجاهدين لا يجيدون من أمور الحياة غير إستعمال السلاح، وتأبط الأحزمة الناسفة والمتفجرات، ولا شيء غير ذلك من أمور الحياة، مع إنهم يحكمون أرضاً تزيد على المائتين وخمسين ألف متر مربع، أي بما يعادل، أو يزيد بقليل، على مساحة (بريطانيا العظمى)، كما يطلقون عليها، ويقيمون شرع الله في أكثر من إثني عشر مليون مسلم، فضلاً عن أبناء الأقليات والديانات الأخرى التي منحوها الأمن والأمان، ويحمونها من غدر ثعابين الشيعة والصلبان والعربان!

وقفت بباب المحكمة انظر إلى الناس بداخلها، وخطواتهم المتنقلة بين هذا القسم وذاك، كانت حركة مطمئنة، فالناس تسير بخطوات متباينة، فهذا يسير بسرعة، وذاك على مهل، وآخر جالس على كرسي، وآخر يقف مستنداً إلى جدار، وذاك يكلم مجاهداً، وبيده أوراق، وآخر يحمل في يده كيساً أجهل محتواه، والكثير من الوجوه التي لا تعلوها قترة، بل طبيعية كوجه أي إنسان، فلا أرى ملامح خوف، ولا تجليات رهبة، ولا أي من ذلك الجنون الأفاك الذي تلبّس أدمغتنا التي حجّرتها الشائعات والأقاويل وتضليل الإعلام!

بجانب الباب حيث وقفت أراقب كل هذا التشكيل غير المتجانس من الناس، أبصرت مكتباً بقربي يجلس عليه رجل بلباس مجاهد، لم يكن يحمل السلاح، وأمامه مجموعة أوراق، وقلم، وقطعة من المعدن يثقل فيها أوراقه.. إتجهت إليه وسألته بعد السلام:

أين القاضي!؟

قال لي:

لأي شيء تريده!؟

أجبته:

لا أدري!

فكان ردي ربما مضحكاً له، أو لغيره، لكنه لم يضحك، واكتفى بفتح عينيه أوسع مما كانتا عليه، فضلاً عن التركيز أكثر في وجهي!

استدركت.. أريد مقابلته فقط!

فظن، وهذا ما ظننته، أن عندي قضية خاصة، لا أريد أن يطلع عليها أحد سوى القاضي، وهو ما جعله يشير لي برجل كان يقف بوسط القاعة، وحوله مجموعة من الأشخاص، وكان يتحدث إليهم، وحينما سألته، أي واحد من مجموعة الرجال أولئك، قال لي:

إنتظر ساحدثه بشأنك!

ثم إتجه إلى الرجل الذي كان يتحدث لمجموعة أخرى، بينهم من كان يلبس زي الجهاد (القندهاري)، ثم عاد برفقته إليّ..

قبل أن يصلني ظننت أنه القاضي ربما، وأنه يتواجد هنا في وسط الناس لسبب ما، لكنه، وحينما وصل وسألني عن مبتغاي، تبين لي إنه ليس بالقاضي..!

كان الشيخ، الستيني، يرتدي دشداشة (جلابية) ترتفع عن كعبيه قليلاً، لونها يتوزع بين الأسود والرمادي، لحيته تتحدث عن وقاره بالإنابة، وسنه مبتسماً، حتى دون كلام..

رحب بي، وسألني عن قضيتي، فأجبته، بعد رد التحية، أن لا قضية لي، وإنما جئت من أقصى شمال أوربا بحثاً عن الحقيقة، وأريد نقل صورة ما يجري في أرض الخلافة للعالم من حولنا، كنت اتحدث إليه، وكإنه القاضي، مع إنني أعلم إنه لم يكن هو القاضي..

عاد ليرحب بي ثانية بحرارة أعلى، ثم إلتزم الصمت قليلاً، وكأنه يفكر في أمر ما، ثم التفت لأحد الأشخاص، ممن كان يتحدث معهم، وطلب منه أن يصطحبني إلى (الشيخ)، فهو المختص في مثل هذه الأمور، لكنه سرعان ما غير رأيه، وقال لذلك الشخص:

عدّ بارك الله بك، أنا سأتكفل بإيصال الآخ المهاجر إلى الشيخ!

أمسك بكف يدي أول الأمر، وصاحبني في سيره، لكنه سرعان ما انتبه إلى إنني أحمل الكاميرا وحاسوبي الشخصي في يدٍ واحدة، فمدّ يده وتناولهما، رغم رفضي أن يحملهما معي، لكني فشلت أمام إلحاحه وإصراره على حملهما نيابة عني!

إتجه بي إلى باب المحكمة، ذلك الذي دخلت منه، ليخرج بي من هناك إلى حيث (الشيخ)، الذي لم يسمه، فسرت معه، وعيني ترقب تفاصيل المحكمة التي لم تشبع عيني من التلذذ بمناظرها الحية وزواياها وأركانها وشخوصها، بل ولم يتسنَ لي حتى معرفة نوع القضايا التي تتعامل بها، لكني كنت متيقناً أن لقائي بـ(الشيخ) ربما سيكشف لي ما خفي عني، وعن العالم كله، وأن ذلك الشيخ سيضع كل نقاط تساؤلاتي على جميع حروف إستفهاماتي!

إتجهت مع الشيخ، سيراً على الأقدام، إلى مكان آخر، على مقربة من المحكمة، حتى انتهينا إلى نقطة تفتيش، وحارساً، يحمل بندقية بنصف أخمص، كما تسمى، يقف بجانب عارضة حديدية، تسد مدخل طريق..

سأله الشخص الذي كان يرافقني إن كان (الشيخ) متواجداً، دون أن يسميه، فاكد له وجوده، فطلب منه الإتصال به وإبلاغه بإن هناك صحفياً ومراسلاً إعلامياً يريد مقابلته، وهنا تحول نظر الحارس إليّ، بعدما كان جُلّ تركيزه نحو جهة الشيخ، فرحب بي أولاً، ثم أمسك بجهاز اللاسلكي الذي كان معلقاً على صدره، وأخذ يتحدث مع أحدهم طالباً منه إيصاله بالشيخ، فجاء صوت الشيخ يعلن ترحيبه على مسمعٍ منا!

طلب مني الحرس ترك حقيبتي وكاميرتي وحاسوبي في كابينة بجانبه، تشبه إلى حد كببير مكاناً للهاتف العمومي، لحين عودتنا، طالباً أخذ ما أحتاجه منها في مقابلتي، فتركت كل أغراضي، دون آخذ منها شيئاً، بإستثناء محفظة جيب، تحوي مجموعة من هوياتي التعريفية وهاتفي الجوال، الذي لم يكن يعمل نتيجة توقف شبكات الهاتف المحمول في عموم الموصل، ما خلا بعض المناطق المرتفعة التي قيل أنه بالإمكان الحصول على إشارة ضعيفة للإتصال من فوقها!

سرت برفقة ذلك الرجل الستيني في طريق أمتد لمسافة تقرب من المائة وخمسين متراً.. كانت هناك بنايات حديثة هنا وهناك على إمتداد ذلك الطريق، بعضها لم يكتمل بنائه بعد، وبعضها إكتمل مع عدم إكتمال دواخل البناء، وهذا ملاحظ من مناظر الشبابيك والأبواب، في حين أن هناك بعض الأبنية قد تم الإنتهاء من إنجازها، كالبناية التي دخلناها، والتي يقع فيها مكتب (الشيخ)، حيث مقصدي!

كانت القطعة التي هي في واجهة البناية التي دخلناها تحمل اسم (المحكمة الإسلامية) كذلك، ولم أعرف حينها إن كانت تلك فرعاً للمحكمة الرئيسية، التي دخلتها أول وصولي، أم أنها محكمة أخرى بإختصاص ثانٍ، أم أن الأمر كله عبارة عن مجمع محاكم الدولة الإسلامية!

حينما دخلنا لتلك البناية إستقبلنا مجموعة حراس، كانوا يتأبطون مسدسات فقط، بعضهم من التركمان، حيث لاحظت حديث بعض الحراس باللغة التركمانية، القريبة من اللغة التركية..

بعد السلام، والمصافحة، سارَ أحد الحراس برفقتنا إلى حيث غرفة (الشيخ) الذي كان بإنتظارنا، حتى دخلنا عليه، فخرج من خلف الطاولة التي كان يجلس عليها ورحب بي، اولاً ثم تفرغ للترحاب بالرجل الذي كان برفقتي، والذي عانقه بحرارة، وكلمات العتب لا تفارق محياه، كونه لم يره منذ أيام، ثم التفت إليّ شاكراً لي، كوني السبب في رؤيته لذلك الرجل، ثم ضحكنا ثلاثتنا للموقف..

طلب منا الجلوس، وقبل ان يلتفت إليّ، راح يحدث الشخص، الذي جاء بي، عن سر إنقطاعه لأيام، فأكد له بإن كثرة الأعمال والمسؤوليات والمشاغل هي السبب، وهو ما يجعله يستعجل الذهاب، بعد تسليمه الأمانة، مشيراً إليّ، فقد كنت أنا أمانته التي أوصلها للشيخ، فرحب بي الشيخ ثانية، واعداً بحل قضيتي أياً كان شكلها!

قال الرجل الستيني الذي أتى بي إليه:

الأخ صحفي، وجاء من أوربا إلى أرض الخلافة، وفي جعبته الكثير مما يريد، واتركه لك، فأنا لا أصلح لهذا الأمر، قالها ثم اعقبها بضحكة، ردها له الشيخ بإبتسلمة عريضة، وزادها بقول:

أنت الخير والبركة يا حاج!

بعدها إلتفت إلي (الحاج) الذي لم اسأله عن اسمه، ولا عن عمله، واستئذن مني بالعودة إلى عمله، وقبل ذلك كان قد استئذن من الشيخ، تاركاً إياي لأستكشف بنفسي وعلى طريقتي ما جئت من أجله!

سألني (الشيخ) بعد عودته إلى الغرفة، إذ كان قد رافق صاحبي إلى باب البناية:

كيف تمكنت من الوصول إلى هنا..؟!

سألته إن كان يقصد الموصل، أم أرض الخلافة، فرد عليّ:

الإثنتان، مع إبتسامة على محياه..!

حدثته عن رحلتي، وما تعرضت إليه فيها من صعاب، ومضايقات، وإعتقال، وعما جرى معي حتى وصلت إلى حدود أرض الخلافة، والذي لم أتحدث عن وقائعه وأحداثه في سلسلة حلقاتي هذه لأسباب، مؤجلاً إياه لزمن لاحق، بإذن الله تعالى..

ثم اعقبها الشيخ بالسؤال عن الهدف والغاية التي جئت من أجلها..

صمتُّ لبرهة، فما أكثر تعدد أهدافي وتنوع غاياتي، لكنني سأذكر هنا بعضٍ منها، وليس كلها، فبعضها يجب تسليط الضوء عليه، وبعضه الآخر أريده مؤونة لي مع ربي..

طالت لحظات صمتي، حتى قال لي:

هل نسيت، وتحاول التذكر ، أم ماذا؟!

فتبسّمتُ أنا هذه المرة، وأخذت اسرد له ما في جعبتي..

ركزت على أهم ما في جعبتي هذه، ألا وهو القضاء، والحُكم، والسجون، وطبيعة المعتقلين وإتهاماتهم..

فقال لي:

لديك الكثير مما تريد معرفته..!!

قاطعته، بل هو قليل من كثير، فالعالم لديه تصور آخر عن عدالة الدولة الإسلامية..

قال لي:

رغم أهمية توافد المقاتلين والجنود إلى أرض الخلافة للإنضمام إليها، إلا إننا بحاجة أيضاً إلى الإعلاميين الصادقين، ليجهروا بالحق، وليكشفوا عن حقيقة ما يجري، سواء في المعارك، أو في ولايات الدولة الإسلامية..

قلت له:

ولهذا انا هنا، ولا يزال غيري الكثير، ممن يخشون المجيء، ولابد من وضعهم، وبقية العالم في حقيقة الوضع..

قال لي:

مرحباً بك، وإن شئت ارسلناك إلى قواطع العمليات، لتطّلع بنفسك على المعارك مع بقية الكوادر الإعلامية..

أسعدني كثيراً بكلامه ذاك، لكنه اعتدل في جلسته، قبل أن يضيف:

لكن هناك أموراً لابد من أخذها بنظر الإعتبار!

وكنت متكئاً على الكرسي، الذي كنت أجلس عليه، فانحيت قليلاً إلى الأمام، وشبكت يداي، ثم سألته:

ضعني في الصورة..

وقبل إجابته اعترفت له إنني حاذرت من إلتقاط الصور طيلة الوقت منذ وصولي إلى مشارف الدولة الإسلامية، ولغاية تلك اللحظة، بإستثناء صور ألتقطتها لحركة الناس في الأسواق من نافذة الفندق الذي قضيت فيه ليلتي، تلك الليلة التي لن أنسى أحداثها، وما جرى لي فيها.. ثم واصلت:

اُريد خارطة طريق، لكن قبل المعارك وقواطع العمليات لي مطلب!

وكنت أريد أن اُحدثه بأمر المحكمة وزيارة السجون ولقاء المعتقلين والقضاة إن أمكن، لكنه قاطعني، قبل أن اُكمل ما أردت الحديث عنه، قائلاً لي:

أخينا الكريم:

قبل كل هذا وذاك عليك بمقابلة القاضي، فلا نستطيع القيام بأي أمر، سواء التحاقك بقواطع العمليات، أو بحرية التجوال في ولايات أرض الخلافة، دون أمر من القاضي، والأمر يقتضي مقابلتك له، ولو كنت مسلماً عادياً، جاءنا مهاجراً يريد الإقامة في أرض الخلافة الإسلامية، لأمّنا لك كل مستلزمات حياتك من هذه اللحظة، ولو كنت مسلماً جاءنا مهاجراً للإلتحاق بسوح الجهاد لقلنا لك إذهب إلى معسكرات الإخوة المنتشرة في كل مكان والتحق بها، وهم سيتولون جمع المعلومات عنك، فضلاً عن إستعانتك بمن يزكيك من المجاهدين، ليكون حالك حال بقية المهاجرين الذين يلتحقون كل يوم بدولة الخلافة وبمعسكراتها، لكن كونك إعلامياً وصحفياً، ووصلت من الخارج، فلا نستطيع البت بهذا الأمر دون أمر وقرار من القاضي، خصوصاً إن لديك قائمة طلبات.. قالها بطريقة المزح ثم أخذ يضحك بهدوء، فما كان مني إلا أن شاركته الضحك، لكن ضحكي كان لأمر آخر، وهو إنه تحدث عما أريده أنا بالضبط، وأبحث عنه، والذي كنت أنوي مفاتحته به، ثم قلت له:

سبحان الله، وهذا ما أريده أنا، مقابلة القاضي..!

فقال لي:

لكن الأمر قد يطول..!

كم يعني؟

ربما هذا المساء، وربما يوم غد، فهناك الكثير من القضايا والقاضي وقته ضيق..

قلت:

وهل سابقى انتظر هنا؟!

فأجابني:

هل لديك مكان تقيم فيه؟!

وأجبته بدوري:

كلا، فليس لي سواكم، ومن قبلكم الله..!

فطلب مني الإنتظار قليلاً ليجري بعض الإتصالات، وهنا قطع حديثنا أحد الحراس، الذي أخبره أن شخصاً يريد مقابلته، ثم ذكر له اسماً، فأمر بإدخاله، فدخل عليه، فسلّم وأعطاه يده مرحباً به، ثم أخذ الرجل يهمس مع (الشيخ)، الذي أخذ يتمتم بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) ويُكثر منها..!

وهنا إلتفت إليّ (الشيخ) وطلب مني الإنتظار قليلاً في الإستعلامات، لإنه كما قال لي سيكون مضطراً لإجراء محادثة عبر اللاسلكي، فهمت من خلاها إنه لا يريد لأحد الإستماع لتفاصيلها..

بعدها بدقيقتين تقريباً، أو ما يزيد عليها بقليل، خرج (الشيخ) ذو الطول الفارع، واللحية الكثة، والبشرة المائلة للإسمرار، وهو الذي إقترب عمره من الخمسين عاماً، إن لم يكن قد بلغها بالفعل، وهو يحمل جهاز اللاسلكي الذي نادى عبره..

وما هي سوى لحظات حتى كان هناك جندي، بلباس (خاكي) اللون، على طريقة البزة القندهارية، مع كامل سلاحه، فقال له الشيخ:

تذهب الآن، ومعك مجموعة من الإخوة، وتمرون بطريقكم على الشيخ، ويقصد به القاضي، حسبما فهمت لاحقاً، وتأخذون منه أمر إلقاء القبض الذي استصدره الآن، وتصطحبون معكم أربعة شهود على الأقل، وترافقون الأخ الذي سيبين لكم العنوان، وكان يشير إلى الرجل الذي كان يتحدث إليه همساً..

ثم ختمها بقوله:

توكلوا على الله، وإن شاء الله لن تجدوا شيئاً!

لم يكن الأمر ليحتاج إلى متخصص ليعلم إنه إنما كان يتحدث عن التبليغ عن جريمة زنا..

وبعد الإنتهاء من أمر هذا الرجل، إلتفت إليّ الشيخ، ثم ابتسم قائلاً:

يا مرحباً بك..

ثم طلب مني مرافقته إلى غرفته ثانية..

سار أمامي، فانتبهت إلى إنه كان ينتعل حذاءاً خفيفاً، وكانت قدمه اليسرى مربوطة بلفاف أبيض، ربما نتيجة إصابة ما، لكنه كان يسير عليها بشكل شبه طبيعي، وقبل أن يجلس نادى على أحد الحراس، ثم جلس وراح يكتب على قصاصة، صفراء اللون، ثم أعطاها للحارس، وقال لي:

إخينا الكريم، بخصوص ما طلبته منا، فللأسف ليس لدينا صلاحية في مثل هذه الأمور، لهذا سيتم إرسالك إلى القاضي، وهو من سيبت في الأمر ويحدد ماهو ممكن..

ثم قال للحارس تأخذ أخينا الصحفي إلى المحكمة لمقابلة الشيخ..

سألته:

ومن هو الشيخ؟!

فرد عليّ:

القاضي..

ثم أضاف مبتسماً:

ألم تُرد مقابلته؟!

فأجبته، بعدما بادلته الإبتسامة:

بالتأكيد!

سألني إن كان معي شيء، فاخبرته بأمر الحقيبة والكاميرا واللابتوب اللواتي تركتهن في غرفة الإستعلامات عند بوابة الدائرة، فأمر بإحضارها على الفور، وما هي إلا دقائق حتى كانت عندي..

ودعته مصافحاً إياه، ثم غادرت غرفته برفقة الحارس، الذي حمل الكاميرا واللابتوب، في حين حملت الحقيبة بيدي هذه المرة، ولم أضعها على ظهري، خصوصاً إنه قال لي إننا سنتركها في الأمانات حالياً، لحين عودتي من المحكمة، بعد مقابلتي القاضي..

خرجنا من عند (الشيخ)، الذي كان اسمه إما (أبو بلال)، أو (أبو أحمد)، حيث تداول الحراس بكثرة هذين الاسمين، ولا أدري بالضبط أيهما يعود له، وسرنا بإتجاه باب البناية، ثم استدرنا من زاوية الباب مباشرة، لنسلك طريق يسمى في العراق بـ (الممشى)، الذي يتم عمله بجانب جدران البيت من الخارج ليكون أشبه ما يكون بالطريق حول الدار كلها، وعادة ما يحوي باطنه أنابيب المياه الموصلة للدار، أو أنابيب المجاري، أو غيرها، حيث يتم تبليطه بعد ذاك ليكون أشبه بطريق يحيط بالبيت كالسوار..

أثناء سيرنا، قال لي الحارس، الذي كان يكثر من النظر إلى وجهي:

سمعت بإنك الصحفي حسين المعاضيدي.. فهل هذا صحيح؟!

قلت له، متسائلاً:

وهل تعرفني؟!

ردَ عليّ بحماس:

بالطبع، فأنا كنت من أشد المتابعين للمنتديات الجهادية، وقد قرأت لك الكثير من المقالات في منتديات الفلوجة، ولكن ذلك قبل سنين، لكني اسمع إنك لا زلت تكتب عنا..

حين قال (عنا) لم أكن أعلم إن كان يعني عموم المجاهدين، أم الدولة الإسلامية تحديداً، ولإنني كنت، ولا أزال مناصراً وداعماً للإثنين، فما هؤلاء إلا جزء من أولئك، لهذا أجبته:

وكيف لا اكتب عنكم وأنتم تاج الرأس!

ثم ختم وصولنا لمكان آخر بقوله:

يسلم رأسك!

حينما وصلنا إلى غرفة أخرى، تحوي جهاز كمبيوتر وكان يجلس فيها أحد المجاهدين، قال له:

أحضرت لك حسين المعاضيدي لتصوره..

ثم التفت إليّ قائلاً:

سابقاً كنت أنت من يصور، والآن نحن سنصورك، ثم أخذ يضحك، فضحكت لضحكته التي كنت أشعر إنها تصدر من قلبه لا من فمه!

رحب بي الشخص الذي كان يجلس خلف جهاز الكمبيوتر الضخم، الذي كان يجلس خلفه.. ثم طلب مني الجلوس على سرير كان بجانبه، فيما بقي الحارس الذي كان برفقتي يحمل كاميرتي واللابتوب..

أخذ جندي الدولة الإسلامية، الذي كان يجلس خلف الكمبيوتر، يكتب قليلاً على جهازه، ثم أخرج كاميرا فوتوغرافية صغيره من درج المكتب، ثم طلب مني الجلوس قبالته على كرسي ليلتقط لي صورة فوتوغرافية، قائلاً لي:

هذه من الإجراءات التي تسبق العرض على القاضي، فلم اُمانع، ولم أكن أعرف حقيقة هل أن ممانعتي ستكون مقبولة أم لا، في حال حدثت أم لا، لكن وبكل الأحوال، فلم يكن عندي مانع من هذا الإجراء، فأنا اُدرك إنني دخلت دولةً، يُعدُّ الجانب الأمني والإستخباراتي فيها هو أحد ركائزها الأساسية..

مسؤول وحدة التصوير، كما فهمت من وصف الحارس الذي كان يرافقني، إنتهى من إلتقاط الصورة لي، ثم شكرني، وأبلغ الحارس الإنتهاء من الأمر.. ثم طلب مني الحارس مرافقته، ولم أزد على ذلك المكان سوى بضعة خطوات من بابه، حتى وقفت مع مجموعة من المجاهدين، كانوا يقفون على شكل دائرة وهم يتحدثون، وكان بعضهم يضع ما تسمى في بلاد الرافدين بـ (الكلِيتةَ)، وهي غطاء الوجه، الذي لا يكشف سوى عن العينين، فيما كان قسم آخر حاسر الرأس، ولا يضع لثاماً، وكان بجانبهم خمسة أشخاص، قد رصفوا بجانب جدار قاعة ذات باب واسع وكبير، وموضوع فيه مجموعة من الأقفال، وعليه قطعة مكتوب عليها:

يمنع الحديث مع النزلاء!

علمت حينها إنني بجانب قاعة تحوي سجناء، وهو ما أكده وجود الأشخاص الخمسة الجالسين بجانب جدار القاعة، والذين تم عصب أعينهم، وحلاقة شعر رؤوسهم بالكامل، ولاحظت أن بعض الشعر لا يزال على ملابسهم ما يعني إنه قد تمت حلاقتهم قبل لحظات..

قدمني الحارس إلى بقية زملائه، قائلاً لهم:

سيرافقكم الأخ الصحفي حسين المعاضيدي إلى المحكمة..

فقال أحدهم:

وما هي جريمته؟!

فقلت، وقبل أن يرد الحارس بالنيابة عني:

معاذ الله أن أرتكب جريمة.. أنا هنا من أجل (قضية)!

فرد عليّ:

كل من يأتي إلى هنا لديه قضية، ويقصد بقية السجناء!

فقلت له:

هل تُجزم أن كل من يأتي إلى هنا مذنب!؟

كان ذلك إختباراً مني، وهو أول مراحل البحث عن إستفهاماتي، فلقد بدأت الآن مرحلة الجد على ما أظن، فطريقة التعامل مع المتهمين هي أولى لبنات العدل، أو الظلم!

فرد عليّ، وكإنه أدرك المغزى من سؤالي:

اعتذر لا أقصد ما فهمته مني، لكني أقصد إن كل شخص جاء إلى هنا لديه قضية، لكن من يُحدد الجرم، أو الذنب، هو القاضي، وهو من يمنح البراءة! قالها وكإنه فهم من سؤال الذي ارفقته بنظرات إستغراب وتعجب من كلامه مدى فداحة ما قاله أول الامر، أو ما فهمته منه على الأقل!

وهنا تدخل الحارس الذي كان برفقتي قائلاً:

اُستاذ حسين، أنت علم، وتاج على الرأس!

ثم تساءل حارس آخر:

والأخ الصحفي من أين؟!

فلم يمنحني الحارس، الذي كان لا يزال يحمل كاميرتي وحاسوبي مجالاً للرد، حيث رد بنفسه:

أخينا الصحفي حسين المعاضيدي جاء من أوربا إلى أرض الخلافة..

قالها بسعادة غامرة، وكإنه هو من دخل أرض الخلافة الآن، ولست أنا!

كان يقف قبالتي شخص له لحية طويلة، غزاها الشيب، حتى نافس بياضه سوادها، ضخم الجسد، متوسطة الطول، عمره شارف على الستين.. قال لي:

يكفيك يا (أبو علي) إنك من عشيرة المعاضيد، التي تميزت عن سائر العشائر بإنها أول من بايعت دولة الخلافة الإسلامية، وهي أولى القبائل التي ناصرت عن بكرة أبيها، وأنت هنا بين أهلك وإخوانك، وإن شاء الله بعد عودتك من عند القاضي ستلتحق بسوح القتال ليكون قلمك وكاميرتك هناك مع الرصاص!

________________________________________

ومع إنني أعلم علم اليقين أن هناك من عشيرتي من لا يزال أعمى البصر والبصيرة، ولا يزال بعض منهم منضوين في خندق الشيعة وأميركا، كحال كثير من عشائر أهل السنة والجماعة، إلا أن حديثه عن دور القلم والكاميرا في هذه الحرب، ومقارنتها بالرصاص، هو ما شد إنتباهي، بل وجعلني اُدرك أن أي جندي من جنود دولة الخلافة الإسلامية يدرك أهمية القلم والكاميرا في هذه الحرب الكونية، التي يشكل فيها الإعلام عمودها الفقري، تماماً مثلما يشكل الرصاص قلبها النابض!

_________________________small.jpg

طلب أحد الحراس مني خلع معطفي، (القمصلة) كما نُسميها بالعراقي، التي كنت أرتديها حتى لا يعلقُ فيها الشعر!

سألته أي شعر تقصد!؟

فقال:لأحلق لك رأسك!

قلت له:

لن أقبل أن تحلق رأسي، ولن يكون ذلك، فلست مُتهماً.. قلتها بعصبية بوجهه!

فقال الحارس الذي كان برفقتي:

إنتظر إنتظر..

ثم وضع كاميرتي وحاسوبي على الأرض وغادر مسرعاً، من الجهة التي أتينا منها..

وما هي سوى لحظات حتى عاد، وهو يقول:

لا، لا، الأخ حسين غير مشمول بهذا، والشيخ يقول يُعامل معاملة خاصة..!

فهمت، على إثر ذلك، أن الحارس عاد إلى (الشيخ)، واستوضح منه هذه التفاصيل، حيث تبين أن الأوامر تقضي بحلاقة (نِمرة زيرو) رأس كل من تكون له تهمة هنا، فحمدت الله على مثل هذا الإستثناء، فأنا لم أحلق شعري يوماً، وحتى حينما كنت في العسكرية، في فترة ما قبل الاحتلال الأميركي، فلقد رفضت حلاقة شعري، بفضل علاقتي مع الضباط، كوني صحفياً، بل إن أحد الضباط، وكان برتبة مقدم، أمرني أن أحلق ذقني يوماً، فرفضتُ الأوامر بدوري، وتعالت الأصوات بيننا، حتى كاد أن ينتهي بالإشتباك بالأيدي، لكنه، عوضاً عن ذلك، إنتهى بمعاقبة ذلك الضابط من خلال نقله إلى خارج بغداد، بعدما هددتُ كبار الضباط بالكتابة عنهم في صحيفة (بابل)، خصوصاً بعدما تطاول ذلك الضابط على جموع الصحفيين، الذين انتسب إليهم، وهو ما أرعب الضباط حينها، كون نقيب الصحفيين كان وقتها (عدي)، النجل الأكبر لصدام حسين، وبذات الوقت كوني كنت اكتب في الصحيفة الأولى في العراق (بابل) والتي كان يشرف عليها بشكل مباشر (عدي) نفسه!

حلاقة شعري، لو حدثت، كانت ستترك لي لربما جرحاً، لكني كنت سأعتبرها وقتذاك أول ثمن أدفعه في طريق البحث عن إجابات لأسئلتي، بل لأسئلة العالم من حولنا، عن الوضع القضائي والحقيقة الخافية، أو (المُغيّبة)، أياً كان شكلها، أو لونها، أو طعمها في أرض الخلافة..

أخذ الحراس بعدما تبين لهم الأمر، ومن أنا، ومن أين جئت، يسألوني عن بعض تفاصيل رحلتي، وعن حياتي في أوربا..

حدثتهم عن كتابي الذي طبعته بلغة أجنبية الخاص بمذكراتي في سجون المحتلين الأميركان، والذي اسميته (361 يوم في الجحيم)، وحدثتهم كذلك عن سرعة إنتشار الإسلام في الغرب، حدثتهم عن وجود أرض خصبة لإعتناق الإسلام في المجتمعات الأوربية، لو وُجد هناك من يقوم بالدعوة، وهنا تدخل أحد الحراس وكإنه اكتشف شيئاً ما فجأة:

تذكرت، لقد كنت اُتابعك على الفيس بوك قبل فترة طويلة، وأتذكر إنني قرأت منشوراً لك يوماً تقول فيه أن هناك من إعتنق الإسلام على يديك.. اليس كذلك؟!

فأجبته:

هذا من فضل الله..

فرد مجاهد آخر:

يعني انت صحفي وداعية...؟!

قلت له:

صحفي نعم، وقد أقمت معارض فوتوغراقية، وعملت ندوات، ومحاضرات، كنت أتحدث فيها عما يجري لنا على أيدي المحتل الأميركي والإيراني..

أما أن أكون داعية فلا، فلست أهلاً لذلك، لكني سعيت لنشر ديني قدر إستطاعتي، وقد وفقني الله في تأسيس مسجد صغير للمسلمين في المدينة التي كنت أقيم فيها، وحينما لم أجد خطيباً أو إماماً قمت بالدور بنفسي، رغم عدم تخصصي في مجال الدعوة، بل ولست حتى طالب علم، لكن كنت أحاول، جهد إستطاعتي، سد الفراغ وخدمة المسلمين، الذين كانوا يفتقدون لرجال دين متخصصين في علوم الشريعة..



بعد الإنتهاء من هذه المحادثة المطولة مع مجموعة الحراس، الذين توافد قسم آخر منهم ليستمع إلى حديثنا، طلب مني الحراس، بعد تلقيهم نداءاً عبر جهاز اللاسلكي، الإستعداد للتوجه إلى المحكمة، وقبل ذلك إفراغ جيوبي، وكل ما هو بحوزتي،فيما سارع أحدهم لإحضار كيسٍ من القماش، فوضع فيه كل حاجياتي التي كانت بجيوبي، ومنها الهاتف، وحزام السروال (البنطلون)، والمحفظة، فيما تولى إثنان من الحراس عدّ كمية النقود الموجودة في محفظتي، وكان هناك من يسجل كل ما يتم وضعه في الكيس، وأمام عيني، ثم تم تدوين الكاميرا، وحاسوبي الشخصي (اللابتوب)، وحقيبة الظهر..!

إستفسرت منهم عن السبب، فأكدوا لي إنها ستكون في قسم الأمانات حتى أعود من المحكمة، فهذه إجراءات روتينية متبعة، فلم اُمانع ذلك، لكني طلبت منهم الإحتفاظ بالعوينات (النظارة الطبية) والتي احتاجها لعيني المتعبة، من كثرة الكتابة وإستخدام الأجهزة، وخصوصاً الكمبيوتر، فلم يمانعوا..

قال لي الشيخ الكبير في السن الذي كان بينهم، والذي أكثر من الثناء على قبيلتي:

يا أخ حسين، الذهاب للمحكمة يتطلب تغطية العين، لهذا سنضع قطعة قماش على عينيك، ونعلم صعوبة ذلك، لكنها الإجراءات الأمنية المتبعة، واحتسبها بدورك في سبيل الله..

ورغم إستغرابي للأمر، إلا أنني تقبلتها بكل رحابة صدر، خصوصاً أن المجاهد (الستيني) قد عرضها عليّ بطريقة محببة، حينما أشار عليّ بأن احتسبها في سبيل الله، وكيف لا احتسبها في سبيل الله، وأنا الذي جعلت كل رحلتي هذه في سبيله، سبحانه وتعالى، منذ أول خطوة لي فيها..!

قلت له:

اتفهّم ذلك يا حاج، ولا مشكلة لي في ذلك، لكني أريد أحد الإخوة يمسك بيدي بإنصاف ويدلني على الطريق، قلتها هكذا بطريقة مازحة، فضحك الجميع لها، ثم قال أكثر من واحد، وبذات الوقت:

أبشر!

سلمني أحد الحراس قطعة سوداء من القماش، على شكل نظارة، لكنها كانت تكفي لإخفاء العين والأنف، بل والفم معهما، في حال وُضِعت على منتصف الجبهة، لا على أعلاها، وكانت مربوطة بقطعة من المطاط (آستك) لتلتف من خلف الرأس لتضبط إحكام قطعة القماش على نصف الوجه تقريباً..

وقبل أن أضع (نظارة القماش) على عيني طلب الحراس من السجناء الخمسة، الذين لم أكن أعرف تُهمِهم بعد، الوقوف، والإستعداد للحركة، فأوقفوهم على شكل رتل، أحدهم خلف الأخر، وطلبوا أن يمسك كل واحد بملابس الشخص الذي أمامه، فيما أمسك الأول بأحد الحراس، ممن كان يوجههم إلى الطريق، لتجنب العثرات، أما أنا، وقبل التحرك، وضعت العصابة على عيني، ثم أمسكت بآخر شخص في الرتل المكون من خمسة أشخاص، لأسير خلفهم في طريقنا إلى المحكمة، إلا أن أحد الحراس جاءني وقال لي:

أنت أشرف من أن تكون في هذا الطابور، فأمسك بي لوحدي وقادني..

شكرته على كرمه، وبذات الوقت اكتشفت أن الأشخاص الخمسة هم مجموعة لصوص، خصوصاً بعدما قال لهم أحد الحراس تحركوا يا لصوص الموبايلات!

سرنا قرابة العشرين متراً، وكان الطريق فيه بعض العثرات، حيث كانت تجري هناك ترميمات على ما يبدو، وأعمال لصب أجزاء من الأرضية بالأسمنت، رغم عدم رؤيتي لأي عامل هناك، لكني خمنت ذلك من وجود الحصى الصغير في واجهة الأرض..

كنت، وأنا أسير، ألمح ذلك الحصى، وطبيعة الأرض تحت قدمي من تحت عصابة العين، التي وضعتها بطريقة أستطيع من خلالها رؤية أقدامي، فلقد اكتسبت خبرة التعامل مع مثل هذه المواقف، أثناء فترة إعتقالي لدى قوات الاحتلال الأميركي، ومن سجون الشرطة االشيعية، ومثلها كذلك من سجون الصحوات السُنية، فلقد جربت كل سجون هؤلاء، فضلاً عن سجون البيشمركة الكردية!

إنتهى المسير بالطلب مني رفع قدمي إلى دكة سيارة.. وضعت قدمي الأولى، ثم ألحقتها بالثانية، ويد الحارس تمسكي بي، وكلامه يوجهني شمالاً ويميناً، فضلاً عن إختلاسي النظر لموضع قدمي على الأرض، حتى جلست على أقرب كرسي من باب السيارة، التي لم أكن اعرف ما هي، لكني خمنت إنها (كوستر)، من دكة بابها الذي يميزها عن غيرها من السيارات.. والحق أقول إنني شعرت بالخجل، لإنني كنت اختلس النظر لموضع قدمي، فالحراس لم يضعوا العصابة على عيني، بل ناولوني إياها لأضعها بنفسي، واضافوا على ذلك أنهم كانوا يمسكون بيدي، ويوجهوني، لهذا وجدت في ذلك خيانة للأمانة، فسارعت إلى خفض العصابة أكثر، حتى غطت أنفي وفمي، لكني همست لنفسي في سرّي قائلاً:

أبعد أن وصلت يا حسين!؟

طلب الحراس من الجميع خفض رؤوسهم والإلتزام بالتعليمات، وعدم الحديث مع بعضهم البعض، ثم قال أحدهم للسائق:

توكل على الله!

سارت بنا السيارة لعدة دقائق، وقد كنت أظن إنه لم يكن يفصلني عن المحكمة سوى جدار أو طريق ليس إلا، لكن المسافة كانت بعيدة كما أتضح، حيث سارت السيارة في طريق يخلو من السيارات، فلا صوت سيارات ولا ضجيج مارة، حتى توقفت السيارة ثانية، حيث أمتدت يد حارس إليّ، وهو يقول لي: تفضل على مهلك بالنزول أخ حسين..

كانت حركتي هذه المرة أكثر حذراً، إذ لم أعد ارى شيئاً على الإطلاق خارج أسوار عصابة العين، والحقيقة إنني شعرت بالتوجس قليلاً في ذلك الوقت، ربما لإنني وللحظات كنت اشعر بإنني في أيدٍ أميركية، أو شيعية، أو مرتدة، لولا أصوات الحراس من حولي وهم ينادوني بالأخ تارة، وبالإستاذ تارة أخرى، وهو ما كان يبدد مخاوفي، ويزيل الرهبة من داخلي..

سرنا في تعرجات مختلفة، ولمسافة تقترب من الخمسة وعشرين، أو الثلاثين متراً، حتى وصلنا إلى ممر على ما يبدو، وفي جانبيه مصطبات مخصصة للجلوس، أجلسونا عليها، وهمس في اُذني أحد الحراس قائلاً:

بعد قليل ستدخل إلى القاضي وتحادثه!

فشكرته وحمدت الله على ذلك..

وهنا علا صوت، قائلاً:

كلاب، تسرقون محلات الناس!

فأجبته على الفور، ودون لحظة تفكير:

إتق الله، إتق الله!

فسارع ذات الصوت للرد:

عفواً يا حاج، لستَ المقصود، ولكني أعني هؤلاء اللصوص، الذين سرقوا أموال المسلمين الآمنين، هؤلاء السراق الذين يجلسون بجانبك..!

أجبته:

وهل أصدر القاضي الحكم بحقهم!؟

فرد عليّ، سيتم عرضهم الآن على القاضي!

أجبته:

فكيف إذن أصدرت الحكم عليهم يا أخي، استغفر ربك!

فرد عليك وبصوت المذنب:

اللهم اجعلني من المتقين.. استغفر الله العظيم..

ثم قام بمسكي من يدي وطلب مني مرافقته، ليجلسني في الجهة الثانية من الممر بعيداً عن اللصوص.. ثم بدأ زميل له يعنّفه على كلامه الجارح بحق اللصوص، في حين صمتَ هو مكتفياً بالإستغفار من الله!

أخذ أحد الحراس ينادي بالأسماء على اللصوص الخمسة، واحداً في إثر الثاني..

كنت استمع إلى أحاديثهم، وبكاؤهم، فلقد كان أحدهم يقسم بأغلظ الأيمان إنه لم يسرق شيئاً!

كانت التفاصيل التي كنت استمع إليها قد سمعت بعض منها من قبل، فذاكرتني لا تخونني، خصوصاً في مثل هذه الأمور، ولكن كيف، ومتى!!

عدت بالذاكرة لبضعة أيام خلت، فتذكرت إنني، وحينما كنت انتظر على قارعة الطريق للدخول إلى أرض الخلافة، وحينها كنت أتصفح في الفيسبوك، قرأت أن عصابة قامت بالسطو على محل لبيع الموبايلات وإكسسواراتها في أحد مناطق الموصل، وأن الدولة الإسلامية تجري تحقيقاً في الأمر للوصول إلى الجناة.. نعم تذكرت الآن..!

إذن فقد تم إصطياد الجُناة، وهم بجانبي يجلسون الآن..

ما أضيق وأصغر هذا العالم إذن.. هكذا قلت في نفسي، فأن تسمع بالأخبار عبر وسائل التواصل الإجتماعي، ثم تجدها أمامك واقعاً، فهذا أمرٌ، لعمري، مثير!

كان أحدهم يبكي بشدة وهو ينفي التهمة عن نفسه، وحينما عاد ليجلس على المصطبة بعد خروجه من عند القاضي أخذ يتحدث بصوت مسموع، وهو يقول:

لماذا يا بني، لماذا فعلت بنا هذا، ألم يكفيك أن تتورط أنت، لتورطني معك، أي عار هذا الذي حمّلتني إياه!

فهمت من كلام الرجل أن أحد اللصوص هو ابنه، وأن الابن هو من جاء بأبيه، دون أن يرتكب الأب جرماً، بحسب ترديد الأب لكلامه ذاك، لكني سمعت القاضي وهو يتحدث لهذا الأب عن سبب حمله لمسدس..!

تم الإنتهاء من عرض اللصوص الخمسة، أو المتهمين بالأحرى، على القاضي، وهنا تقدم مني الحارس، وهو يطلب مني خلع حذائي، قائلاً لي:

دورك الآن يا حاج.. القاضي نادى عليك!

والحق أقول إنني شعرت بالرهبة للوهلة الأولى، فالمحاكم عندي دائماً ما تكون رمزاً للشؤم والخوف والإعتقال والسجن، وربما الإعدام، لكني هنا في حضرة دولة الخلافة الإسلامية، التي تحكم بالعدل، كما هو مفترض لها، وإلا كيف ترفع راية العدل الآلهي، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن، وعلى ما يبدو، وجود العصابة على عيني هو من زرع بعض المخاوف في داخلي، حتى لو كنت أثق في دولة الخلافة وأمرائها وجنودها، فالأمر نفسي بالدرجة الأولى!

أمسك الحارس بيدي، وهو يسير بجانبي، ويوجهني:

شمال، يمين، سر للأمام، توقف، أستدر، إجلس!

جلست على كرسي، في غرفة، تسمع وقع الإبرة لو سقطت على الأرض، بل وتسمع دبيب النمل فيها، وبقيت صامتاً، وهنا بدأ همسٌ خفيف أخذت اسمعه على بُعد أمتار مني..

صوت هادئ لشخص يجلس خلف ظهري، وفي مكان أعلى من مكان جلوسي..

ذكر اسمي، قائلاً:

أين كنت تقيم؟!

أجبته:

في أوربا!

أضاف:

إذن أنت صحفي ومراسل إعلامي بحسب ما علمت؟!

قلت:

نعم!

فهمت من كلام هذا الشخص أنه القاضي، الذي كنت أبحث عن لقائه!

بعدها سألني صوت آخر، كان قريباً مني جداً، حتى إنني شعرت لوهلة أن كرسيه يلاصق الكرسي الذي أجلس عليه:
هل جئت مهاجراً أم في مهمة صحفية؟!

أجبته:

الإثنتان!

قال:

إن كنت مهاجراً فأرض الخلافة أمامك واسكن حيث بدى لك، وإن كنت في مهمة صحفية فهناك إجراءات يجب أن تطبق، فنحن نعيش في حرب كما ترى، ونحن مستهدفون من العالم أجمع!

قلت له:

يا شيخ، الخليفة دعا جميع العقول والخبرات والكفاءات والإمكانيات للهجرة إلى ربوع أرض الخلافة، بضمنهم الإعلاميين، وأنا الآن في مهمتين:

الأولى: ..........................

والثانية: العيش في ربوع الخلافة، وخدمة المسلمين فيها، وفضح حقيقة الإتهامات التي توجه إلى دولة الخلافة الإسلامية!

ثم تطرق الصوت نفسه، في أسئلته، إلى الصحافة والقنوات وغيرها من أمور ووسائل الإعلام، وكنت اُجيبه واُناقشه في بعض المسائل..

عاد الصوت الأول، صوت القاضي، كما خمّنت، ليسألني عن عائلتي، وأن كنت قد تركتها خلفي في أوربا، فأخبرته أنني أحضرتها معي، لكني لم استطع إدخالها إلى أرض الخلافة، بسبب تعقيدات ما قبل الدخول إلى أراضي الدولة الإسلامية، وإنها في مكان آمن، وأكدت له إنني سأعمل على جلبها ما أن ييسر الله لي أمر ذلك!
فلما اطمئن إلى هذا الأمر، قال لي:

إعمل على أن لا تتأخر في إحضارهم!

قلت:

بحول الله وقوته، فهذا مناي، وهو حلم طال تحقيقه!

قال لي:

بخصوص إقامتك في أرض الخلافة فمرحباً بك، وأقم أنّى شئت، أما بخصوص طلبك، فنعتذر عن تلبيته الآن، فهناك بعض الأمور التي يتوجب علينا التحقق منها، بخصوصك، وسنحتاج منك إلى من يُزكيك!

قلت له:

اكتب اسمي على الكوكل، وكتاباتي منذ سنين هي من تزكيني، وإن شئت إحضار من يزكيني، فسأمنحك قائمة بهذا الأمر، وليس شخص واحد!

طلب مني، الأسماء، فاعطيته الكثير من الإسماء، ثم طلب عناوين المواقع التي اكتب فيها، ليتم الإطلاع على كتاباتي، بحسب ما ذكر..

وهنا رُفع آذان الظهر من مساجد الموصل، فختم القاضي اللقاء بالقول:

حان موعد الصلاة الآن.. وسنذهب للصلاة!

قلت له:

هل انتهى اللقاء، فأنا جئت من أقصى شمال الأرض ومن حقي عليك بوقت أطول!

قال لي: انت تريد الكثير، وعلينا إتمام الإجراءات بهذا الخصوص، فلو كنت تريد كتاب مرور وتسهيل مهمة منحتك إياه الآن، مثلما حصل مع الصحفي الألماني (يورغن)، لكن أنت وضعك يختلف، فأنت تريد أموراً أخرى، وهو ما يتوجب القيام ببعض الأمور أولاً، لكني سألتقيك قريباً بمشيئة الله!

إنتهى اللقاء عند هذا الحد، مع ملاحظة أنني تحفظت على ذكرِ بعض التفاصيل والمعلومات والأسئلة، والتي لا تهم القراء أو تخدمهم، بقدر ما تهمني وتتعلق بي أنا..!

لحظتها، سمعت أصوات نهوضهم من على الكراسي، فيما طلب مني أحد الحراس مرافقته في الخروج من المكان، فرافقته ليعود ويجلسني على ذات المصطبة التي كنت أجلس عليها، لكني كنت حينها لوحدي، فلم أكن اسمع أي صوت من حولي، ما خلا أصوات الحراس وهم ينادون أو يتحدثون إلى بعضهم البعض!

بعد طول إنتظار، أخبرني أحد الحراس أن القاضي لم يعُد إلى المحكمة، وأن الوقت قد تأخر على عودته.. ثم طلب مني مرافقته، وسار بي في ممرٍ مسافة العشرين متراً تقريباً، أوقفني في نهايته، قبل أن يرفع العصابة عن عيني، لأجد نفسي أمام باب، بقفل من الخارج!

قال لي:

يا حاج: تفضل، استرح هنا في هذه القاعة، حتى نكمل بعض الإجراءات!

لم اسأله أي إجراءات يقصد، لإن كل ما كان يهمني هو التخلص من تلك العصابة التي كانت تغطي عيني، والتي جعلتني أشعر بالتوتر كثيراً!

فتح الحارس الباب، ودخلت، وإذا بي في وسط زحام من السجناء والمعتقلين، في قاعة عرضها قرابة الأربعة أمتار، وبطول يقترب من العشرة أمتار، ولا يوجد مكان من أرضها يخلو من أفرشة النوم، إلا مساحة المتر، التي هي في نهاية القاعة من عند الباب..!

كان الداخل إلى القاعة يقوم بخلع حذائه أولاً، كما عرفت لاحقاً، عكسي أنا، حيث دخلت وأنا انتعل حذائي، قبل أن تستوقفني تلك الوجه الناظرة المتطلعة إليّ، والتي كانت تغص بها تلك القاعة، وهم ينبهوني إلى ضرورة خلع حذائي، فأخبرتهم بإنني أريد الوضوء، كي أصلي، فأشاروا إلى مدخل المغاسل، والذي كان عبارة عن فتحة كبيرة، تم عملها على شكل باب، لربط القاعة، عبر تلك الفتحة، بغرفة صغيرة يتم وضع فيها بعض الأغطية الزائدة، والأحذية، وبراد ماء، ومناسف الطعام الفارغة، وحبل لنشر الملابس..

كانت تلك الغرفة جزء من ذلك الممر الذي كنت أجلس فيه عند باب غرفة القاضي، لكنها فُصلت عن الممر بسياج مشبك من الـ (بي آر سي)، وطبقة من الخشب السميك وبإرتفاع يحجب الرؤية فقط، لا الصوت، حيث بقي قرابة المتر من الأعلى عارياً من الخشب، بإستثناء الحديد المشبك، الذي يصل إلى السقف، ومن خلال تلك الغرفة (الصناعية) المستحدثة، يتم الوصول إلى باب مصنوع من أرقى أنواع الخشب يُوصل إلى المرحاضين المتجاورين، مع مغسلتين ببابهما!

وقفت، قبل دخولي للوضوء، أتأمل في تلك الوجوه.. وجوه متعددة الألوان، وبأعمار مختلفة، خليط غير متجانس من البشر والملابس والأفرشة، بل وحتى الجدران المغلفة بالسيراميك، طُليت هي الأخرى بألوانٍ متعددة، كتعدد تُهم هذه الوجوه التي ترمقني الآن!

كانت الأفرشة قد وُضعت في القاعة بشكل متقابل، بحيث يمتد كل فراش من الجدار بإتجاه منتصف القاعة، مع إمتداد الجدران، وبقيت مساحة بعرض سرير في الوسط على إمتداد القاعة لتقسمها إلى نصفين، وضع فيها هي الأخرى الفرش بشكل طولي ليستوعب أعداد السجناء، الذين يصل عددهم زهاء الستين، حتى إنني ظننت إنني لن أجد مكاناً وسط هذا الزحام لأجلس فيه..!

لا تزال الأنظار مصوبة نحوي، ورغم هول الموقف عليّ، إلا أنه شعرت حينها أنني وصلت إلى أهم مكان أستطيع من خلاله إصدار حكمي بحيادية عن نظام دولة الخلافة الإسلامية القضائي، فهذه السجون والزنازين هي المعيار، وهي المقياس، وهي ميزان الحكم، فهي التي تُعبد طريق الخلافة بالفلاح والصلاح، وتفرشه بالورد والقداح، عبر العدالة المنشودة، أو أن يقال عنها أن الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود، كما يكثر الإعلام الداخلي والخارجي من ترديد ذلك، وكما يشيع بعض الناس عن مصير من يتم إعتقاله على يد الدولة الإسلامية.. لكنني اليوم هنا لأقف على الحقيقة بنفسي، كيف لا، وأنا قد أصبحت أحد هؤلاء الذين دخلوا سجون الدولة الإسلامية، والآن سأترقب إن كان حالي كمولود سيكون، أم كمفقود سيؤول!

قابلني عند باب المغاسل، حيث كان يجلس، شيخ ملتحٍ، في منتصف الخمسينات من العمر، ويرتدي بزة جهادية (قندهارية)، بنية اللون، وتلك كانت أولى صدماتي!

قال لي:

مرحباً بك!

قلت:

حياك ربي وبياك..

ثم واصلت:

هلا ارشدتني إلى مكان الوضوء!

فقال لي ممازحاً:

مستعجل على الصلاة!

أجبته:

هي زادي!

فرد عليّ بالقول:

ماشاء الله.. ثم أشار لي إلى أماكن الوضوء، قبل أن يطلب مني خلع معطفي، الذي تناوله مني ووضعه على كتفه حتى انتهي..

وأنا اتوضأ فوجئت أن الماء كان ساخناً، وهو ما استغربته، ففي السجون لم نتعود الحصول على ماء الشرب إلا بشق الأنفس، وإذا به هنا ماء بارد، وآخر ساخن في هذا الشتاء، وفي مدينة لا تعرف الكهرباء، إلا من المولدات الأهلية..

قلت في نفسي ممازحاً إياها:

أي دلال هذا الذي أنتِ فيه يا نفس!

بعد الإنتهاء من الوضوء، ناولني الشيخ معطفي، والذي وضعته على الفرش، وبدأت في الصلاة..

بعد التسليم، والإنتهاء من الصلاة، احترت أين أجلس، فأنا لا أعرف قوانين هذا السجن، وهل هذا الفراش لمن يجلس عليه، أم هو مسمى باسم كل شخص موجود هنا، أم أم.. فما كان من الشيخ، الذي كان يرتدي البزة الجهادية، إلا أن ينادي عليّ، ويطلب مني الجلوس بجانبه، بعدما أدرك (حيرتي) في الجلوس، رغم (خبرتي) الكبيرة من السجون والمعتقلات على إختلاف جهاتها..

وهنا تذكرت صديقاً لي، وهو يمازحني يوماً بقوله:

انت لم تترك سجناً لم تزره، ولم يبق إلا سجون الدولة الإسلامية لتدخلها..!

وها أنذا أدخلها اليوم، يا صديقي.. قلتها في نفسي وضحكت لها علناً، مع إني من سعى لهذا، عبر بحثي عن الحقيقة، لكن آخر ما توقعته أن أكون هنا!

حتى أن الشيخ سألني عن سر ضحكتي، فأجبته:

شيء خطر ببالي!

عاد الشيخ ليسألني عن تهمتي التي أدخلتني إلى سجون الدولة الإسلامية، فاحترت بأي شيء أخبره، فقررت التكتم على ما جئت من أجله، حتى أحصد ثمار النتائج المرجوة..

قلت: عابر سبيل.. ولم أزد!

قال: فهمت.. ولم يزد!

الشيخ، الذين تبين إنه أمير القاعة، كما يطلق عليه هناك، عاد ليسألني مرة أخرى:

لست كالآخرين، فلقد راقبتك في الصلاة، وكذلك شعرك لم تتم حلاقته..!! هل أنت من (الإخوة)!؟

ومصطلح (الإخوة) هو ما يُطلق على المجاهدين كتسمية لهم..

ضحكت، قبل أن أجيبه:

وهل يدخل (الإخوة) إلى السجن!!

قلتها بصيغة المتهكم!

فأبتسم هو بدوره، وهو يجيبني بالقول:

كثيرٌ ممن تراهم هنا في هذا السجن هم من المجاهدين!

ماذا، كيف يُعقل ذلك، ولأجل أي شيء!! هكذا قلت، ثم أردفتها:

وهل أنت من (الإخوة)، كما هو ظاهر على بزتك، أم هو لبس سجن ليس إلا!

أجابني، وإبتسامته لا تفارق وجهه، وجه يحكي قصص وحكايات لا تنتهي.. قال لي:

أنا أدعى (أبو عمر)، وأنا أمير في ولاية صلاح الدين، وتحت إمرتي الكثير من الجنود، بل قاطع بأكمله، لكنك تجدني هنا في هذا السجن بين اللصوص والمجرمين وغيرهم من أصحاب السوابق!

تحدثت بتشنج:

مجاهد يُسجن، ويوضع مع اللصوص، ويُعامل معاملة السراق وقطاع الطرق.. كيف يستقيم ذاك!؟

أجابني بمفردة وعبارة، وحدها كانت كافية لأن تقام على أساسها أركان إمبراطورية تغزو مشارق الأرض ومغاربها.. إذ قال لي:

إنه عدل (دولة الإسلام)!

خاتمة الحلقة

كنت قد وعدت أن أروي لكم ما حصل معي، وما رأيته في محكمة الدولة الإسلامية في حلقة واحدة، لكني هُزمت، وأنا الذي كنت أظن نفسي لا اُهزم، فالأحداث يغرق في بحرها عُتاة الكُتّاب، وكبار الصحفيين، فكيف بي أنا الذي لا زلت اتعلم أبجديات الصحافة، كما احسبُ نفسي..!!

ففي أرض الخلافة، لا مكان للنصر أمام الدولة الإسلامية، حتى في مجال النقل والتوثيق والإعلام والصحافة، إذ يقف الإنسان مذهولاً أمام عظمة الأحداث، غير مصدق لوهلة إنه في عالم ما يزال قطب الكون فيه أميركا بكل ثقلها، ومن ورائها العالم الغربي برمته ورميمه، وقطبه الآخر الدب الروسي، وريث الإتحاد السوفياتي، ومن حوله صين الشرق ويابانها وإيران، وحول هذا القطب وذاك دويلات، وأنظمة، وتنظيمات، وتشكيلات ردة، يدعمون كلهم الإخطبوط الشيعي الذي إستفاق في غفلة من الزمن، بعدما تخلص وتجرد من كل تُقيته التي عُرف بها منذ قرون..

لهذا، فإني لكم ناصح أمين، وناصح لنفسي قبل ذاك، أن لا تخوضوا يوماً حرباً، أو تجربوا حظكم، أو تطلقوا وعوداً، حينما يكون خصمكم في الطرف الثاني الدولة الإسلامية، لإنكم لن تخسروا فقط، بل وسيفتنكم نجاحها، ومن كان صادقاً مع نفسه، فلن يسوءه إنكساره أمامها، ما دامت هي على الحق، وهو على باطل الأفكار!


وللحلقات بقية!

حسين المعاضيدي

******************************

هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي

img_6971_small.jpg

الحلقة السادسة

قبل الإبحار من عتبة الرصيف السادس لهذه الرحلة الغريبة الأطوار، كما يحلو للبعض أن يصفها، في طريقي نحو جزيرة الخوف والرعب والهلاك، كما يتصورها البعض، أو على الأقل هكذا يحاول أن يصوّرها للعالم عبر إعلامه المسخ، أتوقف للحظة لأوضح بعض الأمور التي تساءل عنها عدد من القراء، بينها حادثة ترك عناصر الشرطة الإسلامية لسيارة دورية النجدة في الشارع، عند تقاطع منطقة النبي يونس، وترك مفاتيحها فيها قبل إلتحاقهم بالمعارك، لهذا وجبَ عليّ القول أن هذه الحادثة غيرت من بوصلتي، وجعلتني أبحث عن سبب هذا الإهمال، إن كان إهمالاً، وسبب هذا الشعور المفرط بالأمان، إن كان أماناً، وذلك عبر البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الإهمال، أو المسببات التي تمنح المدينة أماناً على هذا المستوى الخرافي والعالي من الطمأنينة والثقة بالشارع، فقد ظن بعض القراء إنني أخذت أبحث عن مقابلة القاضي لاسأله عن هذه الحادثة بالتحديد، وعن سبب ترك الدورية في الشارع ومفاتيحها فيها، فالأمور لا تُقزّم ولا تختزل بحادثة صغيرة كهذه، أيها القراء الأعزاء، القضية أكبر وأعظم من دورية في وسط الشارع، أنا أبحث عن عدل قضاء أوصل إلى هذا الحال، فالقضاء إن صلُحَ، صلحت أمور الناس، وعم الأمن والرخاء، وإن فسد، فسد الراعي والرعية، وساد الجهل وتفشى الوباء!

تساؤل ثان،ٍ تكرر بكثرة، حول سبب حلاقة رأس المعتقل عند دخوله إلى هذا السجن، فأقول:

هنا في هذا السجن، لا مكان لمن لا يحمل تهمة ما، إلا في حالات نادرة، كما هو وضعي أنا، ولهذا وجدت كل من هو بين ثنايا هذا المعتقل قد تمت حلاقة رؤوسهم، بعد أن تتأكد التهم بحقهم، وفي هذا السجن، أو هذا المعتقل، لا يوجد تحقيق، فالتحقيقات الأولية والإعترافات توثق في مقرات الشرطة الإسلامية الموزعة في مدن الولايات، ثم يتم تجميع المتهمين، ممن ثبتت إدانتهم، ليتم عرضهم على القاضي هنا، لهذا فكل من يتم حلاقة شعره، فهو قد إعترف بالتهم المنسوبة إليه، أو أن التحقيقات أثبتت التهم عليه، لهذا فإن هذا الأجراء لا يطال كل من يدخل السجن، بل يُتخذ بحق من اُدين، سواء بإعترافه، أو بما أكدته الوقائع وأثبتته التحقيقات، ومن يدخل هنا، سيتم عرضه على القاضي لثلاث مرات على الأقل، ليتأكد القاضي من كل الأدلة والإثباتات والبراهين، قبل النطق بالحكم، فيما يتم عرض المتهمين بـ(الدماء) على القاضي لأكثر من خمس مرات، لأهمية الأمر، كونه يتعلق بالدماء، وبحرمتها، وبالخوف من الوقوع في الأحكام الخاطئة، فيترتب على ذلك الظلم، الذي وحده الكفيل بأن يكسر شوكة الدولة الإسلامية، في حال سلكت طريقه الشائن، لا سمح الله، بعد أن عجز العالم كله عن كسرها ومنع تمددها بالسلاح والنار، فدعوات المظلومين والمضطهدين هي من ترفع من شأن الأمم وتثبت وجودها، إن كانت لها، أو هي من تجعلها في خبر كان، إن كانت عليها!

فهيا معي لنرفع المرساة، ونُطلق الشراع، ونواصل أبحارنا سوية في سفينة الخلافة الإسلامية، التي من ركب على ظهرها نجا، ومن شطَ عنها، فلن يعصمه اليوم جبل من فوران التنور!

*  *  *

لم يكن أحد من السجناء أو المعتقلين يعرف بهويتي، أو بمهنتي، أو بطبيعة المهمة التي أنا فيها بعد، لكن الهمسات التي كنت اسمعها عن سبب عدم حلاقة شعر رأسي، كما هو متعارف مع أي معتقل يصل إلى هنا، دفع بعض المعتقلين ليتساءلوا في ما بينهم، دون أن يتطرق أحد منهم إلى سؤالي مباشرة، بإستثناء (أبو عمر)، الذي عاد ليكرر سؤاله عما جاء بي إلى هنا، ولكن بطريقة مهذبة، حينما قال لي:

ما مهنة (عابر السبيل)، يبدو عليه بإنه اُستاذ جامعي أو ما شابه.. قالها بطريقة تساؤلية، ليحصل مني على جواب يشفي غليله، فهناك من لا تُعرف تهمته، يبقى سراً مجهولاً محيراً  للغير، حتى يبوح بما لديه..!

قلت له:

عابر السبيل صحافي، عاد من الخارج، وكان في طريقه إلى مدينة أخرى، فأضطر للمرور في الموصل، واستوقفته إحدى نقاط تفتيش الدولة الإسلامية، واحضرته إلى هنا، كونه قدم لهم جوازاً أجنبياً، وهم الآن يريدون التأكد من وجهته!

لا أعرف كيف خطرت هذه الرواية لحظتها على بالي، ولماذا لم أتحدث عن الحقيقة، ربما كانت محاولة مني لإستكشاف طبيعة المعتقلين أولاً، أو ربما كي اطّلع على الأمور كما هي على حقيقتها..

كنت قد أدرجت هذه الرواية في حديثي، كوني سمعت عن طريقٍ يوصل مدينة الموصل، عبر منطقة الجزيرة، بمناطق غرب العراق، دون الحاجة للمرور بمدينة بيجي العصية، التي تدور فيها معارك ضارية، ما جعل الطريق مقطوعاً من هناك، ولكوني من أبناء غرب العراق، فإن ذلك يعطي مصداقية لروايتي التي أوردتها في معرض إجاباتي على (أبو عمر)!

صمت (أبو عمر) قليلاً، قبل أن يُدلي بتعليقٍ حول روايتي، وكان يجلس متكئاً على الجدار، ويضع في حِجره وسادة، ثم ما لبث أن رفع الوسادة ليضعها جانباً، وهو يقول لي:

هل أنت متأكد..!! إن كانوا قد فعلوا ذلك فهذا ظلم، خصوصاً إن كانت لديك مستمسكات تؤكد إنك من سكان الأنبار التي كنت متجهاً إليها..

أدركت حينها أي مطب قد وضعت نفسي فيه، فأنا هنا قد اتهمت رجال الدولة الإسلامية بما ليس فيهم، وهم الذين أكرموني واحسنوا إستقبالي، رغم وجودي هنا في معتقلهم هذا، وجود تم بإرادتي أنا، عبر بحثي عن الحقيقة..

إستدركت الموضوع وقلت لـ(أبي عمر):

وهناك أشياء أخرى كذلك!

لم يسألني (أبا عمر) عن الأشياء الأخرى، التي أردت من خلالها البحث عن خط رجعة لكلامي، لكنه عاد ليتطرق لموضوع آخر، حيث قال:

تقول إنك صحافي.. فما هو اسمك الصحافي:

قلت:

حسين المعاضيدي!

توقف لبرهة عن الكلام، ثم قال، وهو يعقد حاجبيه قليلاً:

هل كنت تكتب في الصحافة قبل الاحتلال!؟

رددتُ عليه بالإيجاب، فعاد ليقول لي:

هل كتبت في الصحيفة الفلانية والفلانية، وراح يعدد بعضاً من الصحف التي كنت اكتب فيها بالفعل، قبل فترة الاحتلال الأميركي للعراق..

ثم أضاف:

ولك لقاءات على قناة الرافدين تتحدث فيها عن أيام إعتقالك في السجون الأميركية!؟

https://www.youtube.com/watch?v=cutW2trUaZo

https://www.youtube.com/watch?v=bAakWVabLzY

أجبته كذلك بـ(نعم)، وبإندهاش كبير لأشياء مرّ عليها سنين، حتى أنها كادت تمحى من ذاكرتي أنا، لكنه لم يذكر أي من كتاباتي اللاحقة حول المجاهدين ونصرتهم طيلة السنين الماضية!

ثم أخذ يضحك، مردداً:

سبحان الله! والله إني لأعرفك، وأعرف كتاباتك، ومواقفك، ونُصرتك للمجاهدين..

ثم أخذ يذكر لي بعض المقالات التي قرأها لي، في وقت أخذت اشرح له مناسبة وقصة كل مقال أشار إليه.. والحق أقول إنني شعرت بالسعادة لأن هناك من كان يقرأ لي، وعلى هذا المستوى من المجاهدين، ما يعني أن كلماتي كانت لا تصل إلى الأعداء فقط، بل ويطلع عليها مجاهدوا الميدان.. وهنا قال لي:

سيكون مكانك هنا، مشيراً إلى الفراش الذي بجانبه، ثم سألني إن كنت قد تناولت طعام غدائي أم لا، فأكدت له إنني صائم!

مع إقتراب موعد آذان المغرب، طلب أحد المعتقلين، ويدعى (أبو فهد)، من الجميع النهوض، وجمع الأفرشة ورفعها عن الأرض، إستجاب الجميع، فتم درجُها جميعها، ووضعت مع محيط الجدران..

جلس بعض المعتقلين على الفراش (المدروج)، فيما أخذ بعض السجناء والمعتقلين بالسير، جيئة وذهاباً، على الأرض الملساء التي تبدو كقطعة زجاج واحدة، بعدما رصفت أرضيته بقطع كبيرة من الكاشي الملون، الذي بدى وكإنه قطع من المرمر..

ولأن القوانين في سجون الدولة الإسلامية لا تسمح بتواصل المعتقلين والسجناء بشكل مباشر مع الحراس الجهاديين، بل يتم ذلك عبر شخص، يتم ترشيحه وإنتدابه من قبل المعتقلين والسجناء أنفسهم، ونفس الشخص هو كذلك من يشرف على عمليات تسلم الطعام وبقية الأمور الإدارية الخاصة بالمعتقلين والسجناء والمحتجزين، لهذا فقد اُنيطت المهمة بالمعتقل (أبو فهد)، وهو صاحب معرضٍ للسيارات، جاء، كشاهدٍ برفقة شاب آخر، يدعى (محمد)، في قضية سيارة، وقع عليها إشكاليات مع أحد المشتكين، وهو ينتظر أن يرسل إليه القاضي ليحسم الجدل لمن تكون عائدية السيارة، ولإنه لم يكن متهماً بجرم، فقد كان شعره طويلاً، كحالي أنا، فيما كان أمير القاعة ومشرفها (أبو عمر) هو من يتولى إمامة السجناء والصلاة بهم، فضلاً عن أمر الإشراف على المشرف..

طلب (أبو فهد) من (جماعة التنظيف) البدء بعملهم، حيث أخذوا بمسح الأرض بالمكانس إستعداداً للصلاة، وعادة ما يتولى أمر تنظيف القاعة أصغر الموجودين عمراً، كتطوع منهم لا بحكم أمر..

إقترب المغرب، وحان موعد الصلاة، صدحت جوامع الموصل بالآذان، فيما قام (أبو فهد) برفع الآذان، تزامناً مع أصوات الجوامع في الخارج..

قبل البدء في الصلاة سارع (أبو عمر) لإحضار برتقالة، وسلّمها لي، كي اُفطر عليها، لحين وصول طعام العشاء، ولا أعرف من أين أحضرها، وكيف، حتى ظننت أنه يحظى بمعاملة خاصة، كونه مجاهداً، وأمير..!

قشرت البرتقالة على عجل، في حين كان السجناء والمعتقلين يقفون في طابور على المغاسل إستعداداً للوضوء لأداء للصلاة..

وقف السجناء في صفوف عدة خلف إمامهم (أبو عمر)، ورغم أن كثيراً من المعتقلين، ممن لا يبدو عليهم إنهم من أصحاب الصلاة، قد وقفوا في الصف، ففهمت بعد ذلك أن الأوامر من إدارة السجن تقضي بأن يحرص كل سجين على الصلاة، وإن رفض فيُجبر عليها، وإلا فإنه يتعرض لعقوبات، دون أن يتم تحديد نوع هذه العقوبات.

كان الإمام يقف إنتظاراً كي ينتهي جميع المعتقلين والسجناء من عملية الوضوء، فيما أخذ إداري القاعة (أبو فهد) يُنظّم الصفوف، ويتأكد من إستقامة كل صف، ليُبلغ بعدها الإمام أن (كلشي تمام)، وأن الصفوف منظمة، ولا فجوات بين المصلين، ليبدأ الإمام بعدها بتكبيرة الإحرام..

كنت أقف في الصف الأول، وتحديداً خلف الإمام، لتأدية صلاة المغرب والعشاء جمعاً، ومع إني كنت أصلي صلاة مسافر، (قصراً وجمع) إلا إنني صليت صلاتهم، إقتداءاً بالإمام..

هذه الصلاة كانت لي معها قصة، فحينما قرأ الإمام سورة الفاتحة بذلك الصوت الجهوري العذب، شعرت أن روحي تنساب من بين ثنايا جسدي، الذي اقشعر، بعدما وجدت نفسي أؤدي أول صلاة تجمعني بالمسلمين في أرض الخلافة، حتى وإن كانت داخل سجن ومعتقل..!

لم أتمالك نفسي، فعذوبة صوت الإمام، (أبو عمر)، وهو يقرأ القرآن سحرتني، وأنا الذي أفتقدت مثل هذه الصلوات منذ سنين طوال، في غربة جعلت من نفسي فيها إماماً لمسجد، ولكن لا مجال للمقارنة بين إمام حقيقي كـ (أبو عمر) وإمام، هو ليس سوى صحافي، اُجبر على صعود منبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، لعدم وجود من يقوم بهذا المهمة، وشتان بيني وبين صاحب هذا الصوت الساحر، الذي جعلني انفجر باكياً في أول ركعة من صلاتنا..!

وصل الإمام إلى الركعة الأخيرة، ورفع أكفه إلى السماء قبل السجود، وأخذ يدعو الله أن ينصر مجاهدي دولة الخلافة الإسلامية، وأن يحفظ خليفتها، وأن يُثبّت أركانها على منهاج النبوة، والمصلون من خلفه يُؤمّنون على دعائه.. ثم تحول في دعائه الطويل إلى سؤال الله، سبحانه وتعالى، هداية شباب المسلمين، وإصلاح من إنحرف منهم عن الطريق القويم.. وما أن أخذ يدعو للجميع بتفريج كُربِهم، وبالخروج من المعتقل، عاجلاً غير آجل، حتى علت الأصوات من خلفه أكثر وهم يرددون (آمين)، فيما أخذ بعض المصلين يبكي بحرقة، وحينما أخذ يدعو الله، عزّ وجلّ، أن ييسر خروج المجاهدين المذنبين ليعودوا ويلتحقوا بإخوانهم من جديد في سوح الجهاد حتى أخذت أصوات أخرى ترفع من (التأمين) على دعاء الشيخ، وكنت ألمس تبايناً في الأصوات، فقد كانت تختلف نبرة المرددين خلفه (آمين) من مكان لآخر، ففهمت حينها أن من ردد أخيراً بـ (آمين) وبصوت عالٍ، إنما كانوا مجاهدين، لم أعرف ماهي تُهمهم، أو طبيعة ذنوبهم بعد، فيما غرق الإمام (أبو عمر) هو الاخر بدموعه، وهو يدعو الله، سبحانه وتعالى، أن يُعجّل بفكاك سجنه، وسجن بقية المعتقلين ليعودوا إلى أرض النزال..

إنتهت الصلاة، ولا أعرف إن كانت صلاتي ستُقبل أم لا، وأنا الذي كنت منشغلاً، في كثيرٍ من وقتها، بتحديد أماكن الأصوات التي (تؤمّن) على دعاء الشيخ بمستوى أعلى من غيرها، فضلاً عن التقسيمات المكانية لتلك الأصوات، وما أن فرغ الإمام من التسليم، حتى سارعت، عبر الإلتفات هنا وهناك، لإستطلاع أماكن تلك الأصوات، لأبحث عن إجابة لكثير من التساؤلات، التي زاحمت خشوع صلاتي!

كان الحرس ينتظر عند الباب أن يفرغ السجناء والمعتقلين من الصلاة ليبدأ في إحضار طعام العشاء.. وهو ما جعل (أبا فهد) ينهض مسرعاً بإتجاه الباب، وهو يمسح بدموعه، ليتسلم أطباق الطعام من الحارس الذي يطلق عليه السجناء اسم (الحجي)، وهذا الوصف تبين لي لاحقاً أنه يُطلق على كل حارس هنا، وليس على ذلك الحارس فقط، كما ظننت للوهلة الأولى!

أحضر الحراس أولاً أكياس الخبز، أو ما يسمى في العراق بـ(الصمون)، وكان لا يزال حاراً، وكإنه خرج لتوه من الفرن، فيما طلب (أبو فهد) من السجناء والمعتقلين تشكيل مجاميع صغيرة، وفي لحظة تحول كل ثلاث أو أربع أشخاص إلى مجموعة يحيطون بـ(منسف) من الرز، كما يسمى في بلاد الرافدين، والتي تم توزيعها على المعتقلين، و(المنسف)، أو (الصينية)، كما يسمى في مناطق أخرى من غرب العراق، هو وعاء متوسط، أو كبير الحجم، يوضع فيه عادة الرز، أو الثريد، ويكثر إستخدامه عند الأسر الكبيرة، أو في المناسبات والولائم، خصوصاً في المجتمعات الريفية والقبلية والبدوية..

s_thumb_3403400_adaptiveresize_700_1000_

تساءل الحارس، وبصوت عالٍ، عما إذا كانت هناك حاجة للمزيد من (مناسف) الطعام، فترحمت العديد من الأفواه الممتلئة بالرز على والديه، وبعضهم أعقبها بتذكيره بسرعة إحضار الشاي بعد الطعام مباشرة، وهم يرددون بلسان عراقي: (عود لا تنسى الچاي بدربك)..

غادر الحارس القاعة، وهو يؤكد لهم بإن (الچاي) جاهز، و(بيكم خير وتدللون)، قالها بلهجته العراقية..

كان الطعام عبارة عن رزٍ، وأضيفت له مرقة بيضاء، وفوقه قطع من الدجاج..

وماهي إلا لحظات، بعد الإنتهاء من العشاء، حتى وجدنا الشاي حاضراً بين أيدينا، كما وعد بذلك الحارس..

كانت إدارة السجن تحضر الشاي في إبريقين كبيرين، يكفيان لأكثر من مائة شخص، وهو ما كان فرصة لشرب أكثر من قدح شاي واحد، بل أن البعض كان يشرب مثنى وثلاث ورباع، فأبناء الرافدين من أكثر شعوب الأرض، بعد البريطانيين، إدماناً على شرب الشاي، ولا تزال في البال قصة خالي، الذي زارنا يوماً، فسارعت والدتي إلى تجهيز الشاي، فأدارت لخالي القدح الأول، أو (الإستكان)، كما يسمى بالعراقي، ثم اتبعته بالثاني، وأردفت الثاني بالثالث، ليعقبه الرابع، فتلاه الخامس فالسادس، حتى وصل إلى (الإستكان) الثالث عشر، فسألته والدتي حينها إن كان يريد المزيد، على أمل أن يقول إكتفيت، لكنه فاجئها بالقول: إن لم يكن لديك مانع، فردت عليه، ليس لدي مانع يا قُرّة العين، ولكن إبريق الشاي قد فرغ..!

بعد الشاي، فوجئت بسلال البرتقال بيننا، حيث أحضر الحارس صندوقين من البرتقال، تم توزيعهما على المعتقلين، بحسب العدد، فيما نلت أنا أكبر البرتقالات حجماً، كتكريم لي من قبل مسؤول إدارة القاعة، (أبو فهد)، كوني ضيفاً جديداً عليهم الليلة.

بعد وصول البرتقال، فهمت الآن مصدر تلك البرتقالة التي أكرمني بها (أبو عمر)، والتي طلب مني الإفطار عليها في نهاية صيام يومي، إذ تبين أن طعام العشاء يتكون من ثلاثة فقرات، الرز مع الدجاج، وأحياناً البرغل بدلاً عن الرز، وأحياناً الإثنان معاً، فضلاً عن الشاي، ثم البرتقال، الذي يستبدل أحياناً بالتفاح، وتارة بالموز، وتارة بـ(اللالنكي)، كما نسميه في أرض السواد، و(أبو عمر) كان محتفظاً بحصته، قبل أن يُطعمني إياها!

بعد الإنتهاء من فقرات تناول العشاء، وشرب الشاي، وتقشير البرتقال، حمل ثلاثة من المعتقلين المكانس ونظفوا القاعة من جديد، ثم اعقبوها بمسح الأرضية، ثم شطفها بالماء والصابون، والقليل من الديتول، للحفاظ على نظافة المكان من الدهون، ومن مخلفات الطعام، الذي عاد جزء منه في الأواني، فقد كان هناك فائض في الكمية، إذ تحرص إدارة المعتقل أن يتناول السجناء كفايتهم من الطعام حد الشبع..

حينذاك بدأت جلسات السمر والسهر على شكل حلقات، وعادة ما يكون تقسيم هذه الحلقات بحسب طبيعة كل مجموعة، فالمجاهدون كان أغلبهم موزعين على حلقات همها الأول التنافس على حفظ القرآن، ومراجعة الحفظ عبر الإستماع لبعضهم البعض، حيث توجد هناك أعداد من نسخ المصحف الشريف، وإن إحتاج النزلاء لأعداد أكبر من المصاحف فيتم تزويدهم بها مباشرة.. كما أن هناك الكثير من المطويات الدعوية بختم وتوقيع وطباعة الدولة الإسلامية، بعضها يتناول مسائل التوحيد ونواقض الإسلام، وبعضها يتطرق إلى عقيدة الولاء والبراء، وبعضها يتحدث عن الحدود، كحد السرقة والزنا واللواط وسائر الموبقات، وأخريات عن فريضة الجهاد في سبيل الله، فيما شدتني مطوية كان يمسك بها أحد الصبيان، الذي لم يتجاوز بعد الخامسة أو السادسة عشر من عمره بعد، حيث سارع (أبو عمر) إلى شدها من يده، وأردفها بضحكة وهو يقول:

جد شيئاً ينفعك، تركت كل المطويات وأمسكت بهذه!!

دفعني الفضول لأستفسر من (أبي عمر) عن فحوى المطوية تلك، وسر سحبها من ذلك الصبي، فردّ عليّ ضاحكاً:

هذا الصبي هنا بتهمة اللواط، ويمسك بمطوية تتحدث عن شروط السبي في دين الإسلام!!

فضحكت واستغربت في ذات الوقت.. ضحكت للموقف، واستغربت لتهمة هذا الصبي، إذ قلت لـ(أبي عمر):

وهل هناك مثل هذه الجرائم ما تزال تقع الآن!؟

فرد عليّ وهو يتألم:

ما تزال هناك ترسبات من عصر ما قبل الفتح (ويقصد ما قبل فتح الموصل)، ثم واصل:

تصور نحن في هذه المحنة، وفي هذا الحال الذي لا يخفى على أحد عظمته، وهناك من لا يزال يرتكب الفواحش، ثم أخذ يشير لي إلى بعض السجناء، ويقول لي:

اُنظر إلى هذا، قد فعل كذا، وهذا قد فعل كذا، وذاك قد فعل كذا، حتى إنني ما صدقت ذلك أول الأمر، وظننته يمازحني، فقد كنت أظن أن معظم هؤلاء السجناء والمعتقلين، إنما هم سجناء رأي، أو من المتورطين بأعمال ضد الدولة الإسلامية، أو من المناوئين لها، كما يردد ذلك ببغاوات الإعلام وأعداء الدولة الإسلامية..!

طلبت من (أبي عمر) أن يضعني في صورة الأمر، وأن يشرح لي سبب وجود كل هؤلاء، فقضينا أول الليل بالحديث عن سبب وجود كل واحد من هؤلاء هنا، فلقد كانت لصاحبي (أبي عمر) معلومات عن كل من يدخل إلى هذه القاعة، بحكم دوره ومهمته في الإشراف على القاعة، وهذه المعلومات لا يأخذها من الحراس، الذين يعجز أي معتقل عن استخلاص المعلومات عن طريقهم، بل يأخذها من ألسنة المعتقلين مباشرة، كما حدث معي!

وهنا قفز إلى ذهني سؤال (أبو عمر) عن سبب وجوده بالتالي هو بالسجن، خصوصاً أنه تحدث عن وجوده في المعتقل منذ العيد الماضي، أي أنه أقترب من إكمال الثلاثة أشهر، فمسح على رأسه، ثم أمسك بلحيته الطويلة، وراح يخللها بأصابعه، وهو يقول:

عليّ دّينٌ، ويجب عليّ إيفائه، ولا أملك المال الكافي لرد الدّين..

ثم أضاف:

القاضي متردد من حسم قضيتي، بل إن أكثر من قاضياً قد نظر في قضيتي ولم يحسمها!

استغربت لهذا الأمر، فسألته السبب، فاكد لي أن القضاة، الذين مرّت عليهم قضيته، يعرفونه عزّ المعرفة، بل أن كثيراً منهم رفاق جهادٍ له، وكانوا يخشون أن يميلوا في حكمهم لصالحه، بحكم العلاقة التي تربطهم به، فكان القضاة يرمي واحدهم بالقضية على الثاني، خشية من الوقوع في هذا الأمر، بحسب تفسير (أبي عمر)..

ثم يستطرد:

اُريد أن أرد الدّين لأهله ليتم إطلاق سراحي، وقد كلفت أبني بهذا الأمر، لكن الأمر يحتاج إلى تفرغ، حيث يتوجب عليه بيع شيء من حاجياتي ليسدد ديّني..

سالته عن المانع من ذلك، فأكد لي أنه يملك قطعة أرض في بيجي العصية، والأحداث والمعارك الجارية في هذه المدينة تعرقل عمليات البيع والشراء الآن، والأهم من ذلك، كما يقول (أبو عمر)، أن ولديه، اللذان يعتمد عليهما في هذا الأمر، هم في سوح الجهاد الآن، وغير متفرغين لهذا الأمر، بل ولا أريدُ لهم أن يمتلكوا الوقت لهذا الأمر- كما يقول- فالجهاد أولى من فكاك الدّين الذي برقبتي!

خرسَ لساني عن النطق، وضاع الكلام، ألهذا الأمر وصل الحال بالمجاهدين، أن يؤثروا سوح الجهاد حتى على أبائهم، بل ويؤثر الآباء بقاؤهم في السجن على أن يتخلى أبنائهم عن مهمتهم الجهادية، ولو ليوم واحد..!

حاولت الإستفاقة من صدمتي، وقلت له:

وكم المبلغ الذي بذمتك لمدينك، فقال لي:

هي (75) ورقة، كما يتم حسابها بالعراق عادة، أي سبعة آلاف دولار ونصف!

قلت له:

المبلغ ليس كبيراً لدرجة أن تبقى هنا في هذا السجن قرابة الثلاث شهور..

قال لي، مع إبتسامة عريضة تخفي خلفها ألماً، بدى لي بحجم أرض وسماء:

قد يكون لديك ليس صغيراً، لكنه والله عندي ليس كذلك، والله أعلم بالحال!

قلت له:

بداية هو ليس بصغير عندي، فالحال من بعضه، كما يقال، لكنك، يا شيخ، أميراً عسكرياً، ومن المفترض أن مرتبك الشهري يسد مثل هذه الإحتياجات!

فنظر إليّ مستغرباً هذه الفكرة عن مسألة المرتب الشهري وحجمه، وعن حال الوضع المادي لأمثاله من الأمراء في جيش الخلافة، قائلاً:

أخي أبا قسورة:

إن لم تكن تعلم، فإن ما يتقاضاه (الأمير) في دولة الخلافة الإسلامية، هو ذاته ما يتقاضاه الجندي البسيط، فلا فرق بين هذا وذاك، فالكل في ميزان الشرع سواء، والأمر نفسه ينطبق على مخصصات الزوجة والأطفال..

ثم أضاف:

نحن لسنا طلاب مناصب، ولسنا ممن يبحث عن الثراء والغنى، نحن نجاهد في سبيل الله، ودولة الخلافة، أعزّها الله، تتفضّل علينا حينما تعطينا ما يسد رمق أطفالنا وعائلاتنا، فما خرجنا إلا لنجاهد في سبيل عزّة الإسلام والمسلمين، وتمكين شرع الله، لا بحثاً عن المال، ولم يكن في خلدنا الحصول على المال، لكن الدولة الاسلامية تكفلت بتأمين معاش عائلاتنا، وإن لم نحصل منها على هذا القوت الشهري، فسيكون خيارنا الجهاد، فضلاً عن تأمين ما نسد به رمق أطفالنا..!

لم أتمكن، وأنا استمع إليه، من حبس دموعي، فما اسمعه هنا يذيب لسماعه الصخر، حتى إنني تمنيت لحظتها لو كنت أمتلك في جيبي، او حتى في خزائني مثل هذا المبلغ لأدفعه عنه، وأفك به ضيق سجنه!

أضاف وهو يتحدث، في وقت كنت ألوذ بالصمت، من شدة الذهول:

والله إنني لا أتألم من وجودي هنا، فهنا كل شيء متوفر لي، طعام، ومنام، وظل، ودفء، ولكن محروم من الجهاد، فما عذري أمام رب العالمين، يوم أقف غداً بين يديه، ما عذري وأنا قد سمحت لأبني بتنفيذ عملية إستشهادية استهدفت مقر وزارة العدل في بغداد، وانا هنا متأخر عن الجهاد بسبب دّين.. ثم أضاف:

والله لو طلبوا مني قطع أجزاء من لحم جسدي قبالة دَيني ما ترددت لحظة، حتى لا اُحرم أكثر من سوح الوغى..

كان (أبو عمر) يتحدث، وعيونه غارقة بالدمع، حتى ابتلت لحيته.. تمدد على ظهره ووضع البطانية على جسده، ثم أخفى وجهه، بعدما أنتابته نوبة بكاء صامت، على تأخره عن سوح الجهاد..!

كنت اتحدث إليه، ولا أعلم إن كنت أواسيه، أم أواسي نفسي، التي تأخرت عن هذا النعيم كل هذه السنين، وإن كنت مجبراً، فما اسمعه هنا شيئاً يفوق الوصف والخيال..!

قلت له:

هون عليك بالله يا (أبا عمر) إنها أيام، بإذن الله، وتعود لجهادك..

رد عليّ متحسراً، وإن عدت، فمن يعوضني هذه الأيام التي قضيتها هنا..!! أبنائي يجاهدون، وثالثهم نفذ عملية إستشهادية في (وزارة الظلم) الرافضية، وأنا هنا جالس لا أستطيع إيفاء ديني ليُفك أسري..

بعد حديث (أبي عمر) وفتح قلبه لي، بعدما تيقن من هويتي، كان لزاماً عليّ أن أصارحه بما جئت لأجله، فتبسم وهو يمسح بدموعه، قائلاً لي:

أعرف ذلك، وأعرف إنك اخفيت عني ذلك!

استغربت أكثر، وسألته:

كيف عرفت!؟

قال:

لقد قرأت لك الكثير، وأعلم إنك لست من النوع الذي يجعل من أرض الخلافة له مجرد طريق ليكون فيها عابر سبيل لا أكثر، ومثلك لابد أن يدعم صدق كلامه بعمله، فأدركت حينها عظمة مسؤولية الكلمة، فكل كلمة نكتبها ولا نطبقها، إنما ستكون شاهدة علينا أمام رب الأرباب، فتهوي بنا في قعر الجحيم ودركه الأسفل مع المنافقين، أو يكون لها معنا شأن آخر وحال!

أخذ (أبو عمر) يجيب عن كثيرٍ من تساؤلاتي، حتى قبل أن اسأله إياها.. قال لي:

لن أحدثك عن القضاء، فشهادتي مجروحة، لإنني أحد جنود الخلافة، لهذا عليك أن تعرف بنفسك ذلك، وتيقن أن وجودك هنا لم يكن عبثاً، بل بتقدير رباني، لتمارس دورك في إظهار وكشف الحقيقة المغيبة عن الناس، والتي يتحكم بمصيرها الشرق والغرب عن طريق إعلامه، هذا الإعلام الذي أنصف حتى الهندوس وعبدة البقر والحجر، لكنه لم ينصف يوماً الدولة الإسلامية، التي تريد أن تطبق شرع الله، لا أكثر، وأن يُعبد الله، سبحانه وتعالى، كما يريد لنا أن نعبده ونقدسه..

حاولت التقصي عن قصة إستشهاد أبنه، التي حدثني عن بعض تفاصيلها، رغم إدراكي صعوبة فتح مثل هذا الموضوع معه، لكن الواجب يحتم عليّ ذلك كما أرى، فمن المهم التوثيق لهذه المرحلة ولرجالاتها الأباة، أمثال هذا المجاهد..

قلت لـ(أبي عمر) معاتباً، بعدما رأيت الألم الذي يختزن في داخله، حتى يكاد يفتك به:

عليك أن تفرح لإستشهاد إبنك، لا أن تحزن!

فردّ عليّ، وكإنني فجرت قنبلةً بين يديه:

معاذ الله، ومن قال لك إنني حزين لما قام به ولدي، بل والله ما حزنت إلا لأنه سبقني إلى الجنة، وأنا لا أزال هنا حياً ومكبلاً بقيود السجن، بل أنه وحينما اتصل بي في آخر لحظاته قبل تنفيذه لعمليته، دعوت له بالثبات، وأوصيته بالدعاء لي ولإخوته أن يلحقنا به عاجلاً غير آجل..

ثم أضاف أبو عمر:

لقد فقدت ولدي، وزوجتي، وأبنتي، رحمهم الله، في وقت متقارب، لكني والله ما حزنت كحزني الآن على حالي هنا، فأي شعور ذلك الذي ينتابك وأبناؤك يقاتلون في بيجي العصية وتكريت الأبية وأنا متأخر عنهم!

لا أعرف لماذا قفزت إلى ذهني قصة ذلك الأسد الهزبر (أبي محجن الثقفي)، وهو يتمرد على قيود وزنزانة الصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص، رضي الله عنه، في معركة القادسية ليهرب من السجن، بمساعدة (سلمى)، زوجة ابن أبي وقاص، ليقاتل في الخفاء، ثم يعود إلى سجنه بعد ذاك، وكإني بـ(أبي عمر) يبحث عن (بلقاء) سعد، وينادي بصوت أبي محجن:

كفى حزنا أن تدخل الخيل بالقنى 
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت 
مصاريع دوني تصم المناديا
يُقَطِّع قلبي حسرةً أن أرى الوغى 
ولا سامعٌ صوتي ولا من يَرَانيا
وأن أشهدَ الإسلام يدعو مُغَوِّثاً
فلا أُنجدَ الإسلام حينَ دعانيا
سُلَيْمى دعيني أروِ سيفي من العدا 
فسيفيَ أضحى وَيْحَهُ اليومَ صاديا
دعيني أَجُلْ في ساحةِ الحربِ جَوْلَةً 
تُفَرِّجُ من همّي وتشفي فؤاديا

تساءلت هنا مستغرباً عن كونه أميراً والمحكمة لا تأخذ هذا بنظر الإعتبار، فرد عليّ بما يثلج الصدر:

نحن هنا جميعاً سواسية، فلا قضية مفضلة على قضية أخرى، بل هنا، ورغم إنني أمير، وشيخ وإمام وخطيب، إلا أن الحراس ينادونني بإسمي، وبإسمي فقط، وهو بالفعل ما لاحظته، واستغربته أول الأمر، حينما سمعتهم ينادون عليه باسمه وهم يتحدثون إليه..

ويضيف (أبو عمر):

هنا لا مكان للمحسوبية، وهذا الصبي، مشيراً إلى صاحب تهمة اللواطة، هو له نفس الحقوق هنا، ولا يتم تفضيلي عليه، فهو، وإن كان مسيئاً، وصاحب ذنب، إلا إنه لا يجب أن تُقدم قضيتي على حساب قضيته، فهو من رعية الخليفة، ويجب أن ينال حقوقه أياً كانت تهمته..!

قطع حديثنا، وحديث الجميع حارس القاعة، الذي طلب من الجميع الخلود للنوم إستعداداً للنهوض مبكراً لصلاة الفجر، فأطفأت جميع الأنوار بإستثناء ضوء واحد خافت، ليساعد من يرغب في الذهاب إلى الحمام ليلاً على إبصار طريقه، فقلت لـ(أبي عمر)، سأنتظر مقابلة القاضي يوم غدٍ، بإذن الله.. فتبسم في وجهي وهو يقول:

لا تنتظر مقابلته غداً، فالغد هو الجمعة، وهو عطلة رسمية في أرض مؤسسات ودوائر الخلافة، فضحكت بدوري وقلت له، حبذا لو كان الإسبوع القادم كله جمعة، لأن هناك الكثير مما أريد معرفته عن هؤلاء المعتقلين، وما جاء بهم إلى هنا، وما سيؤول إليه مصير كل واحد منهم، فتبادلنا الضحكات قبل أن نغطي وجوهنا بالبطانية هرباً من النور المضاء لنتمكن من النوم!

رغم محاولاتي النوم إلا إنني عجزت، فقد كانت الكثير من الأفكار والأمور قد بدأت تتزاحم في رأسي وتعصف به وبي، من بينها الخشية من أن يطول بي المقام، حتى لو رغبت بالبقاء، فحينما دخلت المعتقل الأميركي كنت قد ظننت حينها إنني سأخرج بعد ساعات، كوني صحفياً، وحينما مرت الساعات قلت ربما بعد يوم، وبعد اليوم منّيتُ النفس بإسبوع، ثم توالت الأسابيع والشهور، حتى وجدت نفسي قد قضيت فيه عاماً كاملاً.. فهنا قد قطعت الصلاة مقابلتي مع القاضي، ولا أعرف متى سيعود، ولا أمل في خروج من هنا يوم غد، كونه الجمعة، رغم إنني بحاجة للبقاء هنا فترة أطول، لكني أخشى ما أخشاه أن يطول بي المقام هنا، ليس خشية من السجن، فالحياة هي لنا سجن، ولكني أخشى أن يقال أن الدولة الإسلامية تسجنُ مناصريها، أو تعتقل الناس بغير وجه حق!

وبين نائم وصاحٍ إستيقظ (أبو عمر)، ليجدني لا أزال اتقلب في فراشي، وكانت الساعة حينها قد ناهزت على الثالثة والنصف صباحاً، فقال لي ممازحاً، وهو يفرك بعينيه:

وكإنك لم تعتد حياة السجون والمعتقلات يا أبا قسورة!؟

فقلت له:

والله ليس هذا من سرق النوم من عيناي، ولكن الأمر عندي أعظم وأجلّ!

فرد عليّ مُطمئنا إياي، بعدما فهم مقصدي:

ترفق بنفسك، فوالله لن تندم على سعيك هذا! قاصداً بذلك سعيي إلى البحث عن عدالة ونزاهة القضاء في ظل دولة الخلافة، وهو ما جعلني أرد عليه:

وهذا والله ما أرجوه!

غادرني (أبو عمر)، رفيق سجني المؤقت هذا، ليتوضئ، كي يقيم الليل، وحينما عاد بدأ يصلي فوق فراشه، فأطال القيام حتى شعرت وكإنه ختم نصف القرآن في ركعة واحدة، فيما كانت عيناي تغالب النعاس، الذي بدأ يغزو مضاربي في أعقاب كلام أبي عمر الذي طمئنني على صدق التوجه الذي إخترته لنفسي..

كان دعاء (أبو عمر) الخافت، ودموعه الغزيرة، وهو يناجي رب العزّة في تلك الليلة، بتيسير وتسريع عودته إلى الميدان الجهادي، تقطعُ عليّ طريق النوم، فقد كنت استمع لهمس دعائه، وأنا تحت الفراش، ودون أن يعلم كنت أؤمن له على الدعاء، فمثل ذاك الرجل ليس له إلا أن يكون في الميدان، لولا الدّين الذي يقهر الرجال!

شعرت بيد (أبي عمر) وهي تمتد لتوقظني من غفوتي البسيطة، التي هاجمتني في غفلة من سكوني، وهو يبلغني أن صلاة الفجر قد إقترب أوانها، وعليّ الوضوء قبل أن يصبح هناك زحاماً على الحمامات والمغاسل..

نهضت من فوري، وبعد وضوء وصلاة قيام سريعة، طلب مني (أبو عمر) رفع الآذان الأول، بعد سماعنا لصوت الآذان الأول من مساجد الموصل ، لتغطي التكبيرات وتعلو على أصوات طائرات التحالف (العربي – الغربي – الإيراني)، حتى ما عدنا نسمع لها صوتاً..

بعد الإنتهاء من الآذان، الذي لم يوقظ الجميع، طلب (أبو عمر) من أحد المجاهدين، وكنيته (أبو صفية)، الذي كان معتقلاً هو الآخر لسبب أجهله في ذلك الوقت، أن يوقظ من تبقى من النائمين، فأخذ يدور عليهم واحداً واحداً ليوقظهم، ثم بدأ بعض المعتقلين ممن أنهوا الوضوء في بسط البطانيات فوق الفراش إستعداداً للصلاة..

طلب مني (أبو عمر) ثانية رفع الآذان الثاني، لتبدأ بعدها الصلاة التي لم يتأخر عنها أي من المعتقلين، حتى أولئك أصحاب التهم المخزية، فلا خيار هنا ولا عذر، فالصلاة واجبة على الجميع أياً كانت تهمته أو جريمته أو ذنبه وخطيئته، لتنتهي الصلاة كما أنتهت صلاة العشاء والمغرب بدعاء ودموع وحسرات أولئك المذنبين والمتهمين!

تفرق الجميع بعد الصلاة، وعاد كل واحد منهم إلى مضجعه ليكمل نومته، فيما جلس آخرين فوق فراشهم يمسكون بالمصاحف ليقرؤوا في كلام الله، ويتدبروا آياته..

ساعة ونصف، لا غير، هي الفترة التي اعقبت الصلاة، قبل أن يطرق الباب حراس المعتقل، طالبين من المعتقلين النهوض والإستعداد لتناول طعام الإفطار..

جلس الجميع واتكئوا على الجدار، واضعين الأغطية على أجسادهم، دون الرأس، فالبرد في الخارج قارص، وخيوطه تغزو القاعة، خصوصاً حينما نضطر لفتح أجزاء من النافذتين الطويلتين اللتين أقطتعتا جزءاً عريضاً من الجدار الطولي للقاعة، فمفرغات الهواء، التي تقع واحدة منها فوق رأسي تماماً، لا تكفي أحياناً لتنقية جو القاعة، رغم وجود مفرغتين كبيرتين في سقف القاعة، لا تستخدما عادة إلا نادراً، لإنهما تحولان جو القاعة، حين فتحهما، إلى قطعة من القطب المتجمد الجنوبي!

طعام الإفطار في معتقل الدولة الإسلامية هذا يتوزع بين الخبز الحار، أو ما نطلق عليه بالعراقي اسم (الصمون)، والذي يأتي من الفرن مباشرة، حيث يتم منح صمونتين إثنتين لكل معتقل، وبين الجبن (المثلثاتي) الشكل، حيث تكون حصة كل سجين قطعتي جبن، وأحياناً يُستبدل الجبن ببيضتين مسلوقتين أثنتين، وأحياناً يستعاض عنه باللبن الرائب، حيث يتم منح علبة كبيرة لكل مجموعة، وفي حالات أخرى يتم توزيع الراشي (الطحينية)، التي تتميز بها مدينة الموصل عن غيرها من المدن، تماماً مثلما تتميز بالـ (كبة)، الكبيرة الحجم، والتي تختلف إختلافاً جذرياً عن الـ(كبة) الصغيرة، التي كان يطهوها (حيدر العبادي)، لزبائنه في المطعم الذي كان يعمل فيه بإنكلترا، قبل أن يصبح، وفي غفلة من الزمن، رئيساً لوزراء حكومة المنطقة الخضراء( الإيرانية – الأميركية) المشتركة، تلك (الكبة) التي يعزف عن تناولها الغربيين، لإحتوائها على روث المعممين المُستورد من إيران، ومن النجف ومن كربلاء، على ذمة (الفيسبوكيين) و(التويتريين) وبقية روّاد مواقع التواصل الإجتماعي، ما يجعل جُلّ زبائنه من الحثالات التي صدرتها السعودية إلى أوربا من معسكرات (رفحا) الشيعية، والتي أقامتها شمال الجزيرة العربية للقتلة والسراق والمجرمين في أعقاب حرب الخليج الثانية!

كانت مجموعة توزيع الطعام داخل القاعة مجموعة من الشبان، اختارهم المسؤول الإداري (أبو فهد)، والذين يجاورونه في النوم، فهم من يتكفل بتوزيع الخبز ومفردات الفطور، وتوزيع الشاي، وكذا الحال مع بقية الوجبات، فأخذ أحدهم يتحدث مع المعتقلين بعصبية، كون بعضهم يطلب ملء كوب الشاي جيداً، خصوصاً وأن الشاي كثير، ويكفي لضعف العدد، لينضم أحد أعضاء مجموعة توزيع الطعام إلى صاحبه في توبيخ بعض المعتقلين، فراح يتحدث بصوت عالٍ في وسط القاعة قائلاً:

(من لا يشبع في بيته لن يشبع هنا)، وهذا المقولة معيبة في العُرف العراقي، لإنها تُعدُّ نوعاً من الإهانة والإذلال للمقابل، فما كان من (أبو عمر) إلا أن نهض من مكانه، وأمر هؤلاء الشباب بالجلوس في أماكنهم، ومنع مشاركتهم ثانية في هذا العمل (التطوعي)، فيما هاجم الشباب من المجاهدين، طالباً منهم التكفل بخدمة إخوانهم المسلمين، بحسب قوله، مشيراً إلى أن العمل الجهادي لا يقتصر على سوح الجهاد، بل وخدمة المسلمين أينما كانوا، حتى لو كانوا داخل معتقل، وحتى لو كان المسلمون هؤلاء من أصحاب الذنوب والمعاصي، فخدمتهم واجبة، كما يقول (أبو عمر)، الذي كان يتحدث بعصبية، تعاكس تماماً ذلك الهدوء الجامح الذي كان يطغى عليه، قبل أن يحمل بيده أبريق الشاي الكبير، ويبدأ يدور بنفسه على المعتقلين ليسقيهم الشاي، مردداً: نحن مأمورون أن نخدم صغير المسلمين وكبيرهم!

إنتهى الإفطار ووقته، وشرب المعتقلون الشاي الساخن، الذي عدّل مزاج بعض المعتقلين، من مدمني الشاي، خصوصاً بعد محاضرة (أبو عمر)، الذي كان يتحدث وهو يدور على المعتقلين وأبريق الشاي في يده، لتبدأ بعد ذلك الأحاديث والإستماع للقصص والأسباب التي أوصلت كل واحد من هذا الجمع، الستيني العدد، إلى هذا السجن، ذو العشاء والفطور الشهي، في ظل غياب لهوية الغداء، الذي لم أصل لمرحلته ووقته بعد!

أخذ بعض الشباب يتجمعون حولي، وبدأت الأسئلة تنهال عليّ من هنا وهناك، بعد الإستئذان من (أبو عمر)، الذي جلس يستمع دون أن يتدخل في الحديث، ممسكاً بيده مصحفاً ليراجع حفظه، فهو يحفظ القرآن بكامل أجزائه، ولا ينفك من مراجعة حفظه، كي لا يفقد منه شيئاً، كما ذكر لي لاحقاً..

إختصرت قصتي للجميع بإني صحافي، وبإني هنا للتأكد فقط من جواز سفري، وسأغادر بسرعة، دون أن أخوض في أية تفاصيل أخرى، حتى لا يتم إتهام الدولة الإسلامية ورجالها بما ليس فيهم، كما فعلت مع (أبو عمر) بعد وصولي، والذي سرعان ما صححت له الوضع بتبياني له حقيقة وأسباب وجودي في أرض الخلافة أولاً، وفي ذلك المعتقل ثانياً..

وجدت أن أكثر من يحيطون بي هم من غير المجاهدين، فالمجاهدون كانت لهم حلقاتهم، ولا تجد أحد منهم يغادر يده المصحف، لهذا بدأت أتحدث إلى أولئك الذين جاءوا إلى هذه المعتقلات نتيجة ذنب جنوه، أو جنحة ارتكبوها، أو موبقة وفاحشة اقترفوها، مستغلاً خبرتي في مجال الخطابة لعدة سنين في المسجد الذي إفتتحته في غربتي واعتليت منبره لعدم وجود من يقوم بالمهمة من أهل الإختصاص..

كنت أتحدث لهم أولاً عن إختلاف البيئة التي جئت منها عن هنا، وكيف أن فرق درجة الحرارة قد يصل أحياناً إلى مائة درجة، ففي الصيف مثلاً تصل درجة الحرارة في العراق إلى الستين درجة مئوية، وتزيد أحياناً عن الستين، في حين أن درجة الحرارة في الشتاء، حيث كنت أنا، قد تصل في بعض الأوقات في الشتاء إلى خمس وأربعين تحت الصفر..

كنت اُجيب عن أسئلتهم عن شكل الحياة في الخارج، وكيف هي غرائبها وعجائبها، كنت أتحدث لهم وأشرح لهم، وهم ينصتون بإهتمام بالغ، فكثير منهم لم يغادر حدود الموصل إلى محافظة أخرى، فكانوا منجذبين لهذا الحديث، ثم ما لبثت أن اتجهت في الحديث، مستغلاً هذه الفرصة، عن نظرة العالم إلى الدولة الإسلامية من الخارج، وكيف يحسد المسلمون سكان المناطق التي تقع تحت سيطرة الدولة الإسلامية، وكيف أن الأمنيات معلقة بالهجرة إليها، وكنت أؤكد لهم أن كثيراً من الناس يحسدونهم على هذه النعمة التي هم فيها، حتى العصاة منهم، ثم أخذت استعرض لهم كيف أن العالم يتآمر على الإسلام، وكيف أن كثيراً من سكان الغرب بدأوا يدخلون ويعتنقون هذا الدين، رغم محاربته، ثم أعود لأطلب منهم النظر إلى حالهم، إن كانوا يمثلون الإسلام، أم إنهم أعداء للإسلام، من حيث لا يدرون، بإرتكابهم المعاصي والجرائم، في ظل هذه الظروف التي تمر بها أمة الإسلام، خصوصاً وهم يمثلون اليوم شعب الخلافة..

وجدت في حديثي هذا فرصة لمعرفة أسباب وجود هؤلاء هنا، وما قصة كل واحد منهم، فتوجهت، في خضم حديثي، إلى أحد الشباب الذي كان بعمر المراهقة، وسألته عن سبب وجوده في هذا المعتقل، فأكد لي إنه لص..

سألته عما سرقه، فأكد لي إنه سرق من أحدى المحلات التجارية مبلغاً من المال يقرب من المليون دينار عراقي، أي قرابة السبعمائة وخمسين دولاراً، سألته ثانية عن سبب مد يده، فتذرع لي بالجوع..!

قلت له:

وماذا فعلت بالمبلغ، فقال لي إنه إشترى بنصفه هاتفاً خلوياً حديثاً، والنصف الآخر إشترى به ألعاباً إلكترونية، فوقع في التناقض من حيث لا يدري..

سالته مستغرباً:

وهل من يسرق الأموال بذريعة الجوع يذهب ليشتري بها ما أشتريته، فوضع رأسه بين ركبتيه وقال:

والله صدقت، لكن، والله، أن الشيطان من دفعني إلى ذلك، ولن أفعلها ثانية.. كان يتحدث إليّ وكإنه يتحدث إلى القاضي، ثم سألني:

أنت صحافي و(تفتهم)، رأيك ما سيكون حكم القاضي بحقي؟!

كان الشاب الصغير، ورغم أنه لا يزال في سن المراهقة، إلا أنه لم يكن يعرف حتى القراءة والكتابة، بعد أن ترك المدرسة طيلة سنوات الاحتلال، نتيجة الظروف الصعبة والقاهرة التي كان سكان الموصل يعيشونها قبل إعادة تحريرها وفتحها من قبل مجاهدي الدولة الإسلامية، لهذا فقد كان يتحدث بطريقة بسيطة جداً، قلت له:

أعطني يدك، أمسكت بيده، ثم قلت له:

أيهما تختار؟!

قال:

لأي شيء!؟

قلت:

لقطع يدك.. هذه، أم هذه !؟

فتغير لونه، ثم أخذت نبرة صوته تتغير، وهو يقول لي:

هل حقاً سيقطعون لي يدي !؟

سألته هنا:

المال الذي سرقته لمن كان !؟

أجابني:

سرقته من محل تجاري!

قلت:

يعني هو لشخص ما !؟

صمتَ للحظة، ثم قال:

بالتأكيد!

قلت:

يعني هو لشخص لديه عائلة وأطفال، ويخرج من الصباح إلى الليل، ويعمل جاهداً حد التعب والإرهاق في هذه الظروف القاسية والعصيبة، ليأتي برزق أطفاله وأهله ليطعمهم، ثم تأتي أنت لتسرق جهده وتعبه ورزق أطفاله، فياترى ما الحكم الذي تستحقه أنت.. أنت أجبني؟!

قال بصوت ممزوج بندامة:

من الجوع!

فذكّرته بإعترافه:

أنت قلت إنك إشتريت بالمبلغ هاتفاً (موبايل)، وألعاباً إلكترونية، فعن أي جوع تتحدث، فما كان منه إلا نكّس رأسه ثانية، وهو يقول:

والله صحيح!

إلتفت إلى شاب آخر، وسألته:

يا ترى ماهي تهمتك أنت؟!

فردّ عليّ:

أنا كنت شرطياً قبل الفتح!

استوقفتني إجابة هذا الشاب الذي تجاوز العشرين، ربما بأربع أو خمس سنين، ويدعى (سعد المعيني)، والذي كان يرتدي سترة جلدية (قمصلة)، أنيقة، بنية اللون، فهي المرة الأولى التي التقي فيها بألد أعدائي، من أعوان الحكومة الشيعية، سواء من الشرطة، أو من الجيش، أو من بقية عناصر الأجهزة الحكومية العميلة..

قلت له:

وهل إعتقلتك الدولة الإسلامية لأنك شرطي !؟

فأجابني، بعدما تنهد قليلاً:

أنا قصتي طويلة ومعقدة!

قلت له:

ليس ورائنا من شيء، تحدث لنقضي الوقت بالأحاديث، قلتها على أمل أن يضعني في تفاصيل قصته (الطويلة والمعقدة)، والتي إختصرها بالتالي بثلاث جمل، لا أكثر..!

قال سعد:

لقد كنت شرطياً قبل الفتح، وتحديداً في دائرة الشؤون الداخلية بشرطة بيجي بمحافظة صلاح الدين، قبل أن تصبح إحدى ولايات دولة الخلافة، وبعد (الفتح)، وسيطرة (الإخوة) على المحافظة، قمت بالتوبة وإعلان براءتي، حالي حال الآلاف من أفراد الشرطة والجيش والصحوات..

كان (سعد) يتحدث، وهو يستخدم مفردات جهادية كـ(الإخوة) تعبيراً عن المجاهدين، و(الفتح) دلالة على عملية فتح المدن وتحريرها، وغيرها من المصطلحات..

وقبل أن يكمل حديثه قاطعته:

وأين المشكلة، فإن كنت قد تبت، فلماذا أعادوا إعتقالك إذن !؟

قال:

حينما اعلنت البراءة كان يتوجب عليّ تسليم سلاح الشرطة، الذي كان بحوزتي، إلى (الإخوة) بحسب الأوامر والتوجيهات التي أعلنتها الدولة الإسلامية، كأحد شروط التوبة، لكني أخفيت المسدس، وأكتفيت بتسليم البندقية فقط، وفي أحد الأيام، تم إيقافي في إحدى نقاط التفتيش الخاصة بـ (الإخوة)، فوجدوا المسدس بحوزتي، حيث كنت أحمله معي في السيارة، فتم إعتقالي وتوجيه تهمتين لي بدل الواحدة، الأولى عدم تسليمي لكل السلاح عند إعلان توبتي، والثانية حملي السلاح دون ترخيص من الدولة الإسلامية.. ثم أنهى كلامه بسؤالي:

اُستاذ، يا ترى ما هي عقوبة مثل هذه التُهم؟!

فأجبته، مستحضراً كل حقدي الدفين على الشرطة والجيش الحكومي والصحوات:

قطع الرأس فقط!

كان (سعد) يضع ذقنه على ركبته، حينما كان جالساً متحدثاً إليّ ليروي حكايته، فرفع رأسه إلى الأعلى متفاجئاً ما أن نطقت بجوابي ذاك، فقال والرعب قد فتك بملامحه ودبّ بين عينيه:

معقول!!

شعرت بيد من خلفي تمسني، لأجد (أبو عمر) يخفي ضحكاته، وهو الذي كان يستمع لأحاديثنا، دون علمي، فسحبني نحوه قليلاً ليهمس في اُذني:

قطّعت أيديهم ورؤوسهم، رأفة بهم، فلن يناموا الليل يا رجل.. قالها، ثم أخذ يضحك.. فيما أجبته بالقول:

لو كان الأمر بيدي لأحرقتهم، فردّ عليّ مازحاً: لا جعلك الله قاضياً.. فتشاركنا الضحك على الموقف، قبل أن أعود لأكمل التناوب بين أحاديثهم وأحاديثي!

حان موعد صلاة الجمعة، وأخذت مساجد مدينة الموصل تصدّح بتكبيرات الآذان، وأصوات خطباء منابر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخذت تشق أعنان السماء، صدعاً وجهراً بالحق، هذه المنابر التي لطالما حوربت من قبل الشيعة، ومن قبل علماني الكُرد، وعلى أيدي مرتدي السًنة، فكانت تشكو إلى بارئها ظلم هؤلاء، وتسيّد الباطل، فيما قمنا نحن بإداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً، كالمعتاد، إذ لا جمعة في السجن..

بإنتهاء الصلاة، جاء موعد الغداء، والذي لم يكن يختلف كثيراً عن عشاء الأمس، (مناسف) الرز، وأخرى حوت البرغل، ليعقب الغداء الشاي، ثم الفاكهة، ثم نومة القيلولة بعد الظهر..

أثناء هذه الأحداث، شدني منظر أحد المعتقلين، وكان أكبرنا سناً، رجل كهل، يكاد عمره يقترب من الخامسة والسبعين أو ربما يزيد بقليل، وكان يجلس وحيداً، وهو محدودب الظهر، نتيجة تداعيات العقود السبعة او الثمانية التي تركت آثارها عليه..

كان مجموعة من الشباب يتناوبون على خدمته، يساعدونه في الذهاب إلى المراحيض وإعادته، وإبلاغ الحراس بكافة طلباته من علاج وغطاء مضاعف وغيرها..

كان يغطي رأسه وجسده دائماً بـ(فروة)، وهي رداء مبطن بجلد خراف الأغنام، وهي تعد من أساسيات الرجل الريفي أو البدوي في بلاد الرافدين، وخصوصاً في مناطق وسط وغرب وشمال العراق، دون الجنوب، الذين عادة ما يكثر سكانه من إرتداء (القماصل) العسكرية فوق ملابسهم المدنية، والـ (فروة) هذه يزداد سعرها إرتفاعاً كلما صغر عمر الخروف الذي صُنعت من جلده..

كان هذا الرجل المسن يؤدي الصلاة جالساً، لعدم قدرته على الوقوف طويلاً، فتعجبت لحال هذا الرجل، وعن سبب إعتقاله، وهو الذي بلغ من الكبر عتيا، فأخبرني (أبو عمر) بقصته، حيث تبين إنه كان يمارس السحر منذ سنين طوال، وأن رجال الدولة الإسلامية قد إعتقلوه متلبساً، وهو يمارس أعمال السحر، فجيء به إلى هنا، بإنتظار أن يُعرض على القاضي، لينظر في أمره، فقلت ممازحاً (أبو عمر)، سألجأ إليه ليعمل لي سحراً، فربما يخرجني من هنا، فضحك (أبو عمر)، قائلاً لي:

ليخرج نفسه أولاً بسحره..!

شاب في العشرينات جذب إنتباهي، لا ينفك عن قراءة القرآن، وكان دائماً ما يضع المصحف على صدره حتى أثناء القراءة، فكان يقرأ دون أن ينظر إلى المصحف، بل وحتى حينما ينام كان يضع المصحف على صدره، محتضناً إياه بقوة، وكإن أحداً ما يريد أن يسرقه منه، كان يرتدي بدلة جهادية سوداء اللون، ما يعني أنه تم إعتقاله من ساحة معركة أو من الواجب الذي كان فيه، وكان الشاب، ذو اللحية الطويلة، رغم صغر سنه، ينام على يميني، دفعني الفضول للتساؤل عن قصته وسبب دخوله السجن..

قلت له:

هل أنت من (الإخوة).. وأعني من المجاهدين؟!

فرد عليّ بحسرة، بعدما أعتدل في جلسته:

كنت!

والآن..؟! هكذا سألته:

أجابني:

لا أدري، فالشيخ من سيقرر.. ويقصد بذلك القاضي!

قلت:

لكنك لا تزال تلبس زي المجاهدين، يعني إنك لا تزال منهم!

ردّ عليّ:

زيهم ما يزال عليّ لإنهم إعتقلوني من مكان جريمتي!

سألته عن (جريمته)، كما وصفها هو!

فردّ عليّ:

أنا قاتل.. قالها بمرارة وألم..!

إندهشت للأمر، فسألته عن حيثيات قصته، فأكد لي إنه كان في واجب جهادي، وفي لحظة إستراحة، كان يمسك بسلاح بندقيته متفحصاً إياها، وفي غفاة منه إنطلقت رصاصة من فوهة البندقية، دون إدراك منه، ليُقدّر الله لحظة إنطلاقها مع مرور صديقه ورفيق جهاده من أمامه، لتستقر في فخذه!

قلت له مستغرباً:

وكيف لرصاصة في الفخذ أن تقتل صاحبها، فأجاب على إستفهامي بالقول:

كانت المعركة على أشدها، ولم يكن لدينا الوقت لنعالج الجرح، وقد رفض صديقي الجريح أن يتم إخلاؤه في الحال، وبعد الإنتهاء من المعركة تم نقله إلى المستشفى للعلاج، وبقيّ بعدها ليومين في المستشفى، قبل أن يفارق الحياة، نتيجة مضاعفات الإصابة التي حدثت بسبب التأخر عن علاجه وذلك لإصراره على البقاء في المعركة..!

وعكس بقية المعتقلين الذين كانوا يسألوني عن توقعي لقرار القاضي بحقهم، سألت (أحمد)، وكان هذا اسمه، عن الحكم المتوقع في مثل هذه الحالات، فأشار إلى أن صديقه، وقبل أن يفارق الحياة، برأه من أي شيء، وأكد لأهله، وللمجاهدين، بإن الحادثة إنما كانت قضاءاً وقدراً، وأوضح لهم إننا لسنا أصدقاء ورفاق جهاد فقط، بل نحن أخوة، وأن ما حصل كان بقدر رباني، مطالباً أهله بعدم تقاضي أي شيء من صاحبه ورفيقه، كالديّة، في حال عدم نجاته..
كان (أحمد) يتحدث والدموع تملئ عينيه.. قلت له:

هون عليك يا أخي، فالأمر قدرٌ إلهي، ونسأل الله لصاحبك الجنة، ولك المغفرة.. فأكد لي أن أكثر ما يؤلمه ليس عملية القتل بحد ذاتها، فهو، كما يقول، أدمن على القتل اليومي، وهو يتقرب إلى الله بقتل الشيعة وملاحدة البيشمركة، كما يصفهم، لكن الألم أن رفيقه وصديقه المقرب هو من سقط قتيلاً على يديه هذه المرة..

ثم أضاف:

تم عرضي على القاضي عدة مرات - يقول أحمد - وقد تكفلت الدولة الإسلامية بدفع الديّة عني إلى عائلة صديقي، كوني كنت في واجبي الجهادي، لكن العائلة لا تزال ترفض تسلّم الديّة، نزولاً عند وصية صاحبي، الذي قتلته بيداي!

كان شعور الذنب عند (أحمد) قد طغى على كلامه، حينما كان يكثر من ترديد مفردة (قتلت صاحبي بيدي)، تماماً مثلما يبرز ذلك من شدة تمسكه بالقرآن الذي كان ملاصقاً لصدره طيلة فترة حديثي معه..

تحدث (أحمد) أيضاً أن القاضي وعد بإطلاق سراحه، وهو ما تطالب به عائلة صديقه كذلك، لكن من الصعب عليه أن يتعايش لاحقاً مع هذا الأمر بسهولة، كما يقول، خصوصاً أن الفقيد كان أقرب المقربين إليه، فأخذت أواسيه بقصص من التأريخ، وبأحاديث نبوية، وآيات قرآنية، لعلي اُخفف عنه بعض مما فيه، فوجدته يردُ عليّ بما يفوق علمي وحدود معرفتي الشرعية، رغم صغر سنه.. فلله دّرُ رجال دولة الإسلام، لله دّرُ رجال دولة الإسلام!

 

خاتمة الحلقة

قد يتعجّل البعض، فيظن مخطئاً، أن ما جرى معي إنما هو مصير ومآل كل من يصل إلى أرض الخلافة مهاجراً، لكني، وحتى لا تذهب الظنون بالبعض بعيداً، أقول:

من يأتي أراضي الدولة مهاجراً، ليعيش على ثرى أرضها، وتكثير سواد أهلها، فسيتم إستقباله بحفاوة، قلّ نظيرها، ومن جائها مجاهداً، ليكون جندياً في جيشها الرباني، سيوضع في حدقات عيون قادتها واُمرائها قبل معسكراتها، لكن من يصلها كمهاجر، وكصحفي، يحمل في جعبته الكثير من الأسئلة والإستفهامات، كحالي، فلن يتم تسهيل أمره حتى يتم معرفة عدد الكريات البيضاء والحمراء في دمه، وعدد الكروموسومات ، وربما حتى أعداد الخلايا، الحية منها والنافقة، في جسده، فالدولة الإسلامية تخوض اليوم غمار الحرب العالمية الثالثة، وكما هو متعارف فإن إجهزة الإستخبارات الغربية، والعربية، والشيعية تعتمد في معظمها على الصحفيين، وعلى عمال الإغاثة، وعلى المؤسسات الإنسانية، ومنظمات حقوق الإنسان، في أعمالها التجسسية على أهدافها، فهذه المهن، هي عادة أولى السبل والوسائط التي تسلكها وتتبعها كل الأنظمة المخابراتية في العالم لإختراق مناطق سيطرة أية جماعة جهادية، واسألوني عن ذلك، فلطالما عرضت عليّ بعض المؤسسات الصحفية والإعلامية التي كنت أتعامل معها الحصول على معلومات أمنية واستخباراتية، أكثر منها صحفية، حينما كنت اعمل في الساحة الميدانية الجهادية، قبل إضطراري لمغادرة العراق.. والمصيبة الكبرى أن زملائي الصحفيين كانوا على الدوام مشاريع تجسس دائم، كعادتهم، ولمن يدفع أكثر، إلا من رحم ربي، لهذا فلن ألوم القاضي، لو حاول التقصي حتى عن نوع العطر الذي كانت تضعه جدة والدة أمي في ليلة دخول جد والدة أمي عليها، المتوفيان قبل ولادتي بعشرات العقود من السنين، خصوصاً أنني جئت من أوربا، حيث موطن المؤامرات، ومهد الدسائس التي تحاك ضد الإسلام عموماً، وضد الدولة الإسلامية خصوصاً، كما إنني قضيت سنين عدداً خارج البلاد، وهي مدة كافية ليتم تجنيدي حتى من قبل مخابرات قبائل الماساي الأفريقية، وما يرسم علامة الخوف والإستفهام أكثر، في مثل هذا الحال، أنني كنت اكتب وأناصر المجاهدين، دون خوف أو وجل من داخل أوربا، هذه التي عادت لتحمل لواء محاربة الإسلام من جديد، بدلاً عن أميركا المتقهقرة، بعد إنتكاسة الأخيرة وإنهزامها في العراق وأفغانستان وباقي سوح الجهاد، أوربا التي تطارد بأسنانها قبل أيديها وأرجلها أي حس أو نفسٍ جهادي، بل أن هذه الإجراءات أشعرتني بالإطمئنان بعدم قدرة أي مخابرات، مهما كان لونها، أو شكلها، أو جنسها على إختراق المنظومة الأمنية الجهادية لدولة الخلافة الإسلامية.. فناموا رغداً يا رعاياها!


وللرحلة بقية!


حسين المعاضيدي

******************************

هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي

img_7489_small.jpg

الحلقة السابعة

قبل أن اُدخلكم إلى السجن معي، وددت أن اكشف لكم عن غزارة دمع، نافس وسابق نقر أحرف كلماتي على الكيبورد، بعدما وصلتني عشرات الرسائل على الخاص وعلى العام، سواء في تويتر، أو على الفيس بوك، وعبر أصدقاء ومعارف ممن التقيت بهم، يُطالب كل واحد منهم منحه فرصة سداد ديّن (أبي عمر)..!

وسأذكر بعضاً من هذه المواقف، من باب التفاخر بإننا اُمة حيّة رغم كم الموت الذي يُحيط بنا، وليعرف من يحاول التجاهل أن المسلمين على إختلاف مشاربهم، حتى ممن يقيمون تحت سطوة الحكام والطغاة، إنما أجسادهم هناك، وارواحهم تحوم في مدن ومناطق وولايات أرض الخلافة، مهما حاول الإعلام المأجور التغطية على خيبته، وخيبة حكامه، ومن يقف خلفهم من حكوماتٍ، وأنظمة، ومخابرات الشرق والغرب المتآمر على هذه الأمة، التي تثبت كل يوم إنها لا، ولن تضمحلّ، أو تموت..!

بعض من هذه الرسائل، المثلجة للصدور، جاءت من حرائر، طالبنني فيها مساعدتهن في إيصال المال إلى محكمة الدولة الإسلامية، لفك قيد (أبي عمر)، وبعضهن، باعت ما تملكه من مصاغ ذهبي وجهزّن المال، وآخريات أقسمن عليّ أن لا (اُخجلهن) برفضي المساعدة في ذلك، هكذا كان حال النساء، أما الرجال فأعجز عن ذكر مناقبهم، فهذا يسأل عن طريق يوصل من خلاله المال للمجاهد (أبي عمر)، وذاك يُقسم عليّ بالله أن أوصل الأمانة بنفسي لأبي عمر، وآخر يستحلفني برب الأرباب أن لا أرده خائباً، وآخر وآخر وآخر، حتى أن المبالغ التي أراد ورغب اصحابها بالتبرع بها لـ(أبي عمر) قد تجاوزت عشرات الآلاف من الدولارات!!

بل أن بعض غيارى المسلمين راح يتواصل مع معارف له في داخل الموصل الأبية، كي يرسل المال، الذي بسببه تم سجن (أبو عمر)، إلى المحكمة الإسلامية في الموصل بشكل مباشر، حسبما علمت!

ورغم إنني إعتذرت من الإخوة هؤلاء، لأسباب عدة، منها إنني أخاف من ثقل الأمانة، ولكوني في غير المكان الذي يتواجد فيه (أبو عمر)، والأهم من ذلك أن (أبا عمر) قد لا يوافق على هذا الأمر، لكني استثنيت أحد الإخوة الذين حملني أمانة كثقل الجبال طلب فيها مني إيصال مبلغ إليه، طالباً إياي تقبيل يد ورأس (أبي عمر)، ورجائه قبولها، وإن رفضها طلب أن يتم توزيعها على فقراء المسلمين في أرض الخلافة..!

لهذا أقول أن أمة فيها أمثال (أبو عمر)، وأمثال هؤلاء الذين تسابقوا متوسلين أن يكونوا هم من يفك كربة مجاهد في أرض الخلافة ليعود إلى ساحة جهاده التي فارقها رغماً عنه، اُمة فيها أمثال هؤلاء لن تنهزم، ولن تُكسر شوكتها، لا والله أبداً، وكيف لشوكتها أن تنكسر وأتباعها ومحبيها ومناصريها يسيرون على خطى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلى أثر صحابته الغُرّ الميامين، فهؤلاء الأتباع إنما دستورهم القرآن، حتى وأن كان بعضهم لا يزال تحت سطوة الحكام الخونة، وتحت رحمة الأنظمة المجنونة التي تحكم بلاد المسلمين بالحديد والنار تارة، وبالسحر، والتنويم المغناطيسي تارة أخرى!

نعم إن ردود الأفعال على قصة (أبي عمر)، ليست بغريبة على أبناء جلدتنا من المسلمين من أهل السنة والجماعة، لكنني والله أعدها صفعة لكل أولئك المراهنين على إصطياد الماء في شبك، أو ممن يظنون أنهم قادرين على تغطية عين الشمس بغربال، فالدولة الإسلامية، بخلافتها القائمة، اصبحت ليست محل إهتمام وبصر العالم بأسره، بل إنها باتت اليوم أمل الحالمين، وحلم المضطهدين، ومقصد المظلومين، ممن نأى بهم شاطئ الحكام بعيداً عن الإسلام وشريعته ونهجه المبين، في محاولة من الحكام الظالمين لحشرهم في بودقة الشيطان الرجيم!


* * *


أحد عشر شخصاً، بإعمار مختلفة، توزعت بين الأربعينات، فالخمسينات، فالستينات، كانوا جميعاً يرتدون الدشاديش، (الجلابيات)، وبعضهم كانت على اكتافهم الـ(الفروة)، وبعضهم الآخر كان يرتدي المعاطف (جاكيت، قمصلة)، كان يظهر على ملامح وجوههم الخوف والإندهاش، فلربما استغربوا طبيعة المتواجدين هنا في هذه القاعة، كما حصل معي لحظة دخولي..!

بدأت التساؤلات والإستفسارات تنهال على الداخلين الجدد، وهو ما أثار فضولي أنا كذلك للإستفهام عن سبب إعتقالهم، ووجودهم هنا بالتالي، وقبل أن أهم بالنهوض لأتجه إليهم، لإشباع هذا الفضول، الذي لا ينفك عني أينما أدرت برأسي وعيناي، أمسك بيدي (أبو عمر)، وهو يقول لي:

لا تستعجل يا أبا قسورة، فأخبارهم و(علومهم) عندي، وسأذكرها لك أنا!

استغربت للأمر، فكيف له أن يعرف، وهو لم يتحدث إليهم بعد!!

وقبل أن اسأله أدرك حيرتي، فأجابني بالقول:

هؤلاء أعرفهم، فهم أعضاء مجالس البلدية لمناطق الزاب، وهم كانوا أدوات بيد الحكومة الشيعية والكردية، تم إعتقالهم بعد التحرير لوجود الكثير من الشكاوي بحقهم من قبل أبناء المدينة، بعدما عاش هؤلاء على جراح معاناتهم سنين طوال، واليوم قد آن أوان الإنتصاف للمسلمين منهم على ما يبدو، كما يقول (أبو عمر)..!

كان (أبا عمر) يعرف عنهم هذه التفاصيل بحكم إنتمائه لتلك المناطق العشائرية النسيج، والتي تتداخل فيها القرابة، حتى بين العشائر المختلفة، بحكم بيئة المجتمع وطبيعته.. 
راقبتهم، كان في نيتهم البقاء كمجموعة واحدة حتى داخل السجن، لكن الوضع هنا داخل هذه القاعة لا يجري بحسب أهواء ومزاجيات الداخلين، فالحصول على مكان لأحد عشر شخصاً في مكان واحد أمر صعب، بل محال، لهذا فقد توزعوا بين المعتقلين، وبين هذا الركن وذاك..

بعد يومٍ من وصولهم أخذ أحد أفراد هذه المجموعة الجديدة، وكان موضع نومه الجديد في الركن المقابل لنا في نهاية القاعة، يُكثر من التذمر والتشكي من الشخص الجالس بجانبه، كونه حرمه قي الليلة الماضية، كما يقول، من النوم، لإنه يكثر من قراءة القرآن والصلاة طيلة الليل، وهو ما يجعل النوم (يطير) من عينيه، كون نومه خفيفا،ً كما يردد، وأي حركة أو صوت خفيف قد يوقظه، لكن الأمر في حقيقته أن ذلك الرجل كان متضايقاً من وجود لص ينام بجانبه، كما اشار إلى ذلك الشاب (اللص)، الذي ارسل له (أبو عمر)، وطلب منه أن يراعي حال جاره الجديد، الذي لا يستطيع النوم بسبب حرص ذلك الشاب السارق على قراءة القرآن وإقامة الليل..

لكن الأمر تجاوز حده حينما راح ذلك الرجل (عضو مجلس الزاب) يتذمر بصوت عالٍ، وراح يتحدث عن (جاره) الشاب بشكل علني وهو يقول عنه:

أنت في الخارج لص، وهنا (صايرلي) ملا، أي إنك أصبحت هنا ملتزماً بالدين والعبادات، بعدما كنت لصاً في الخارج، وهنا ثارت ثائرة (أبو عمر)، الذي تعمّر وجهه غضباً، وأحمر لدرجة إنني نفسي شعرت بالخوف من غضبته، وهو يهاجم ذلك الرجل بسيل من الكلام الجارف..

قال له (أبو عمر) بغضب:

نعم، لا يعجبكم صلاح شباب هذه الأمة، وتريدونهم أن يكونوا مثلكم سارقين ولصوص، وأن لا يتوبوا ويعودوا إلى جادة الصواب والطريق الصحيح، تريدونهم أن يبقوا في ضلالهم..!

إعلم، يا أنت، أن هذا الشاب خير منك ألف مرة، فهو إن كان قد سرق، فقد سرق شخص واحد، وهاهو يدفع ثمن ذلك راضياً بقضاء الله وحكمه، أياً يكن، وهاهو يطلب الإستغفار من الله ليل نهار، لكن ما بال من سرق أموال المسلمين جميعاً، ويا ليتها كانت على المال فقط، بل تعدى ذلك إلى تسليم المجاهدين إلى الشيعة الرافضة، وإلى ملاحدة الكرد العلمانيين، وإلى محاربة كل فعل حسن، وحينما يأتون إلى هنا يظنون إنهم فوق مستوى البشر..!

عليك أن تعلم إنك هنا في أرض الخلافة، وأن عملك هو مقياس تقواك، و(عنترياتك) الفارغة هذه إنتهى زمنها، وهذا السارق خير منك ألف مرة، بما نراه عليه من مداومة العبادة والتكفير عن ذنبه، هو قد سرق شخصاً واحداً، لكن انظر لحالك وأنت قد سرقت ملايين المسلمين.. ثم قال له:

إن لم يعجبك المكان غيره، وإذهب لمكان آخر، والشاب لن يترك مكانه!

بدى لي لحظتها (أبو عمر) وكإنه يُحمل ذلك الرجل تبعات نظام فاسد بأكمله كان يحكم المسلمين قبل فتح مناطق السنة وإستردادها من الشيعة والملاحدة العلمانيين، بل والرجل، ومن جاء معه، ادركوا هذا الأمر، فانتدبوا أحد كبار السن ليأتي إلى (أبو عمر) ليتحدث إليه، ليهدأه ويخفف من تأزم الموقف..

قال الرجل، الذي هو الآخر كان من أعضاء المجالس البلدية في منطقة الزاب، والذي يقترب عمره من السبعين لأبي عمر:

يا شيخ، أنت الإمام هنا، وأنت من يفترض بك أن تستوعب الجميع، كبيرهم وصغيرهم، وبخصوصنا والله إن كثير منا لم يسرق، بل كنا نحاول خدمة مناطقنا، بل وحتى حينما إقترب (الشباب) من منطقة الزاب، ويقصد بذلك المجاهدين، نحن من ذهبنا إليهم وطلبنا تسليم المدينة دون قتال، فدخلوها، وقد أعلنوا العفو عن الجميع، وأما وجودنا هنا فليس عن دعاوى سرقة، بل عن شكاوى من بعض الناس حول المجلس البلدي الذي كنا فيه، ووعد القاضي بحلها قريباً، وفق شرع الله..

ثم أضاف الرجل:

ونحن راضون بما سيُحكم به علينا، ثم إن (الخليفة) قد أصدر عفواً عن أعضاء مجالس النواحي، وهذا العفو قد شملنا، بإعتبار أن (الزاب) ناحية وليست قضاء، وقد وعدنا القاضي اليوم خيراً، وأكد لنا بإنه سيتم حسم قضايانا سريعاً، وأنت يا شيخ (أبو عمر) تعرف هذه المنطقة، وتعرف (أخوالك) فيها..

ردّ (أبو عمر) على الرجل بكل وقار وإحترام وقال له، بعد أن خفت حدة غضبه:

يا خال.. أنتم كنتم مع أعداء الإسلام ضد المسلمين، واليوم نعيش حكم إسلامي، وترون (ابن أختكم)، ويقصد به نفسه، إنه موجود معكم في هذا السجن، حالي حالكم، وتعرفون من أنا، لكنها العدالة، فحينما يظن أحد أنه فوق مستوى بقية المسلمين فوالله لن نقبل، وليعرف كل واحد قدر نفسه..

فقاطعه الرجل قائلاً:

معاذ الله أن نكون فوق مستوى المسلمين، والله إننا لم تأتِ إلى هنا إلا بسبب ذنوبنا، فكيف نظن ذلك بأنفسنا..
قاطعه (أبو عمر) هذه المرة:

قل لمن يظن ذلك إذن يا (خال) أن هذا المكان لا يسير وفق أهواء ومزاجيات الداخلين، نعم إنه سجن، لكنه لا يسير إلا وفق شريعة الله على الجميع، على السارق والزاني، على القاتل والغادر، ومن يحدد البراءة من الجُرم هو القاضي، لا نحن، وحينما يعترض أحد ما على عبادات السجناء، فسنقف جميعنا مع السارق والزاني والقاتل ضد من يقف أمام محاولتهم التكفير عن ذنوبهم، وأبلغوا (صاحبكم) بذلك، إن لم يكن يعلم!

كان (أبو عمر) يتحدث والشخص المعني يستمع من بعيد، فالحديث يكاد يسمعه كل من كان يجلس في النصف الأخير من القاعة، وهذا الشخص من ضمنهم، والذي كان يلتزم الهدوء والصمت..

ثم اعتذر (أبا عمر) من الرجل، ومن بقية مجموعته، إن كانت بعض كلماته قاسية، لكنه أعقب اعتذاره بالقول:

إنها غضبة لله ثم لرسوله، ثم لعبد يتوسل إلى الله أن يقبل توبته، وليس لي حظ شخصي منها..

وختم الرجل جلسته مع (أبو عمر)، وهو يعيد وضع نظارته على عينيه، بالقول:

والله نعرف ذلك، وإلا ما كنت أتيتك لأتحدث إليك..

ثم أضاف:

يا شيخ جميعنا هنا في محنة، فاسأل الله لنا أن يفرج عنا، ويعيدنا لعائلاتنا سالمين..

فرد عليه (أبو عمر):

نسأل الله أن يفرج كربة جميع المسلمين الموحدين..

عاد الرجل الكبير في السن إلى مكانه واجتمع حوله بقية أفراد مجموعته، أو معظمهم، وراح يتحدث إليهم، مع إنهم سمعوا كل تفاصيل الكلام، حتى قبل أن يعود إليهم، فيما عاد (أبو عمر) إلى فتح المصحف الذي لم يغادر يديه، وراح يراجع حفظه للقرآن.

في اليوم التالي، وكالعادة بعد صلاة الفجر، ثم نوم استمر لقرابة الساعة والنصف، ثم نهوض وفطور، جلس الجميع يتأمل ان ينادي الحرس على اسمائهم ليتم عرضهم على القاضي، وبالفعل كان هناك من ذهب إلى القاضي، ثم عاد، وكان السؤال، كالعادة، من المعتقلين:

ها، بشّر، ماذا قال لك القاضي!؟

فيجلس السجين العائد، ليحدثهم عن كل صغيرة وكبيرة في حديثه مع القاضي، بل أن بعضهم يقوم بشرح حتى (تنحنح) القاضي، وإبتساماته، رغم إنهم لا يرونه بشكل مباشر، ووعده له بالخير ، فتأتي الأمنيات للسجين، أو المعتقل، بالإفراج عنه عاجلاً غير آجل..

مع المساء أدخل علينا الحراس شاباً، يقترب في عمره من العشرين، ملامحه لا تشير إلى إنه من بني جلدتنا، فشعره الأشقر الناعم، وبياضه بشرته الناصع، ولون عينيه يوحي بالكثير، ويجعل التخمينات تذهب بعيداً ولا تأتي إلا بالظنون في إنه ليس من أمة الإسلام، لكن ما أثار استغرابنا أكثر في أمره أن شعره كان طويلاً، ولم تتم حلاقته، كسائر المعتقلين، وأكثر من أثارهم الإستغراب في هذا الأمر هو أنا، بإعتباري مثله، ليس من ناحية لون شعري الحالك السواد، ولا من طبيعة بشرتي الصحراوية المعالم، رغم جو أوربا الذي كنت فيه، والذي فشل في ترك تضاريسه على خارطة وجهي البدوي، ولا من ناحية لون العينين، اللواتي يشكلان صفراً على الشمال، مقارنة بلون عينيه الزرقاويتين، ولكن التشابه كان من ناحية عدم حلاقة الشعر ليس إلا، وهو ما دعاني للطلب منه الإقتراب، إذ خوّلني (أبو عمر) التخصص في معرفة كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالداخلين الجدد، بعدما وجد الفضول الذي أغرق في بحره، يفوق فضول جميع المعتقلين، ولو اجتمعوا معاً..

فاجئني، وهو يجلس، بطريقة إلقائه السلام عليّ، حيث قال:

السلام عليكم ورحمة الله..

رددت عليه السلام، وقبل أن أبادره بأي سؤال، قال لي مستغرباً:

شعرك طويل، ليس كالباقين!؟

فقلت له:

أصحاب الإعدام لا تتم حلاقة شعرهم هنا!

فقال لي، بإندهاش كبير، وكإنني فجرت قنبلة في أحضانه:

ماذا!! وماذا فعلت!؟

قلت له:

قصة طويلة.. دعك مني، ما اسمك أولاً:

وقبل أن يجبني عن اسمه كنت اسمع ضحكات (أبو عمر) خلفي على ما اتهمت نفسي به..
أجابني ضيفنا الجديد:

اسمي (داني)، ثم أردفها، بعد توقف قليل، بـ(يوسف)..

ظننت حين نطقها بهذا الشكل أنه يقصد أن اسمه (داني يوسف)، ومع إني لم أفهم سرّ فاصل توقفه بين الاسمين، إلا إنني تجاوزت الأمر، وقلت له:

آه، أنت نصراني إذن، وماذا فعلت لتكون هنا، وهل أنت محكوم بالإعدام مثلي، ولهذا لم يحلقوا لك شعرك!؟

فقال لي، معاذ الله، والله إني لم ارتكب أي جرم، ولم أفعل شيئاً يغضب الله!

كانت المفردات تتقافز من ثنايا كلامه، وكإنها تصدر عن لسان مسلم، لا نصراني، كما توحي بذلك هيئته قبل اسمه.. ما دعاني للقول:

اُنظر إلى هذه الوجوه هنا..

فأخذ يدور بنظره على مختلف زوايا القاعة، ثم قال:

ما شأنهم!؟

قلت:

جميعهم ينتظرون معرفة ما أتى بك إلى هنا، ولست أنا فقط، فحدثنا عن قصتك من البداية لغاية وصولك إلى هنا، وأطل الحديث، فلربما أمامك أشهراً، أو سنيناً هنا ستقضيها هنا، وعليك أن تمتلك رصيداً غزيراً من القصص والحكايات لتقضي بها أيامك وساعاتك في هذا السجن..!

فقال لي ويداه وأصابعه أخذت تتحدث، من فرط قلقه، نيابة عنه:

لا، أنا لن يطول بي المقام هنا، وسأغادر، ربما بعد قليل، أو ربما في الغد، هذا ما قاله ليّ القاضي!

إلتفت هذه المرة إلى (أبي عمر) وضحكت، قائلاً له:

اسمع يا شيخ، أنا ظننت إنني ساخرج بعد خمس دقائق، وها أنذا هنا منذ دهر طويل، و(صاحبنا) يريد أن يخرج بعد ساعات، أو عند الغد!!

توقف (أبو عمر) عن القراءة، وهو يلتفت إليّ، قائلاً:

الرجل يقول لك ليس لديه شيء، وأنت قتلت نصف سكان العالم، فطبيعي هو يخرج، وأنت تبقى..!

قالها (أبو عمر) مع إبتسامة خفيفة، توحي بإنه كان يمزح معنا، لكن هذه الإبتسامة لم تشفع لـ(داني) الذي صدق مُزحته، فقال، والخوف يعلو وجهه:

أنت قاتل!! كم قتلت، ولماذا قتلت، ومتى يتم تنفيذ الإعدام بك.. !؟

وهنا فوجئت بضحكة مدوية يطلقها (أبو عمر) من خلفي، وكإنه لم يضحك منذ عشرين عاماً..!

بعد إنتهاء (أبو عمر) من ضحكته، والتي انتبه الجميع إلى صداها، قال (أبو عمر):

إتقِ الله يا (أبا قسورة)، ماذا فعلت بالرجل!!

عدت إلى الشاب، وقلت له ثانية:

دعك من جرائمي، وحدثني عن جريمتك!؟

فقال، والخوف يملئ عينيه مما سمع مني عن مُزحة جرائمي (الوهمية):

أنا كنت نصرانياً واعتنقت الإسلام!

فوجئت برده، فاندفعت التكبيرات من فمي، بلا إرادة مني أو وعي..

لا أعرف، وقتها، لماذا قفز إلى ذهني لحظة إعلان إحدى الأوربيات الشهادة أمامي يوماً، حينما حدثتها لإسبوعين، عبر الفيسبوك، عن الإسلام، فحينها كنت اُكبّرُ الله بلا شعور مني، حتى أن من يراني كان ليظن إنني مجنوناً ساعتها، من شدة فرحتي التي لم تسعها الدنيا، وهاهو المشهد يتكرر أمامي، وإن كان الشاب قد اعلن اسلامه على يد غيري، لكني شعرت بزهوِ وعزّ الإسلام، وهو ما لا يشعر به إلا من يعيش مثل هذا الموقف بنفسه، لا نقلاً عن الغير..!

إلتفت (أبا عمر) إلينا وراح يُكبّر الله هو الآخر، وأمام تكبيراتي وتكبيرات (أبي عمر) دب الصمت في كل أرجاء القاعة، وسرعان ما عاد ضجيج السجناء وهم يرددون:

ها بشّرونا، هل صدر عفو من الخليفة!؟

وبعد أن أخبرناهم بتفاصيل الأمر، أخذ البعض يُكبّرُ الله بصوت عالٍ، فيما عاد ليجلس البعض، وكإن شيئاً لم يكن، بعدما خذله ردّنا بأن الأمر يتعلق بإعتناق ضيفنا الجديد للإسلام..!

زادت حماوة الجلسة مع (داني)، خصوصاً بعدما انضم إلينا الكثير من السجناء، ليستمعوا لقصة إسلام هذا الشاب، ومن بينهم، بل على رأسهم (أبي عمر)!

فوضني الجميع لتوجيه الإسئلة للمسلم الجديد، وهو ما دعاني لرد كل من يحاول توجيه سؤال إليه، طالباً من الجميع التروي، وإن جميع إستفساراتهم سيتم الرد عليها، والليل طويل، والأيام القادمة كثيرة، كما اخبرتهم بذلك، وهو ما دعا (داني) للرد عليّ:

لا أخي لا، أنا لن يطول بي المقام هنا!

تجاوزت مرحلة المزاح، وقلت له حدثنا عن قصة إسلامك، ثم عن سبب وجودك هنا!؟

فقال لي:

قبل ذلك هل صحيح أن من لا يتم حلاقة شعره يكون محكوماً بالإعدام!؟

فضحك (أبو عمر) قبل ضحكي، ليجيبه نيابة عني:

إطمئن الرجل يمزح معك، وهو ربما سيخرج قبلك!

زرع الرد في نفس (داني) شيئاً من الطمأنينة، عبّر عن ذلك بإبتسامة خفيفة، وهو يقول:

توقعت إنك لست مجرم، ثم أضاف:

قصة إسلامي ووجودي هنا مترابطتان!

طلبت منه التوضيح، وأن يأخذ وقته في الحديث، فلا يوجد ما يشغلنا عن الإنصات له مهما طال الكلام..

قال (داني):

اسمي (يوسف)، وقبل ذاك كان (داني)..

وهنا فهمت سرّ توقفه لبرهة، وهو ينطق الاسمين معاً أول الأمر، حتى ظننت حينها أنه ذكر اسمه واسم أبيه..

واصل (يوسف) الحديث:

أنا كنت اسكن في منطقة الدورة ببغداد، وكان لي أصدقاء مسلمين كُثر، وكنت اُرافقهم على مدار اليوم، حتى إنني كنت أدخل المسجد معهم، لإنتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة، ومع مرور الأيام بدأت أدخل معهم إلى داخل المصلى، فبدأت اتأثر بالإسلام، وبدأت معي رغبة معرفة دين أصدقائي المقربين.. ومع الوقت، ومداومتي على حضور المحاضرات والجلسات الدينية برفقة أصدقائي، وبعد قراءتي لسيرة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، في بعض الكتب، اعتنقت الإسلام، وذهبت إلى إمام المسجد ونطقت الشهادتين أمامه، رغم رفض أهلي، بل ومحاربتهم لي نتيجة ذلك، وهو ما دعاني إلى هجرهم، وهجر العراق بكامله، فاتجهت بعد ذلك إلى سوريا، وأقمت هناك لعدة سنوات، وأخذت أعمل معتمداً على الله، ثم على نفسي، وكنت ادعو الله دائماً أن يُثبتني على الإسلام، وأن يُعينني على غربتي، بعد غربة الأهل..

وهنا قاطعته قائلاً:

نحن هنا جميعاً أهلك يا (يوسف)، وكل واحد هنا هو أخ لك، وكلنا نفتخر أن نكون إخوة لك..

كانت معالم التأثر بادية على وجوه جميع الجالسين من السجناء، المنصتين بخشوع لأحاديث هذا الشاب، فكثير منهم، ربما، لم يقابل من اعتنق هذا الدين عن إقتناع وهداية، وليس كحال كثير منا عن فطرة، لا أكثر، حتى بات إسلام كثير منا تختزنه (الهوية) فقط، لا قلوبنا الجوفاء الخاوية من الإيمان!

واصل (يوسف) سردّ قصة إسلامه، وقصة وجوده بيننا هنا في هذا السجن، قائلاً:

حينما كنت في سوريا، تعرفت على شاب عراقي، أعانني كثيراً، بعد الله، في غربتي، نتيجة متانة وقوة علاقة صداقتنا، ثم قدّمني إلى عائلته..

مرت الأيام، وهذه العائلة المسلمة (العزّاوية) من ديالى، والتي يعيش أفرادها في سوريا، كحالي أنا، تقف إلى جانبي، ويساعدوني في كثير من الأمور، وهو ما دعاني، بعد التعرف على معدنهم الأصيل، إلى طلب يد أبنة لهم كانت تصغرني بقليل..

لم تمانع العائلة ذلك، يقول (يوسف)، رغم إنقطاعي عن عائلتي، بعدما عرفوني عن قرب، وعرفوا قصة إسلامي وهجرتي للنجاة بديني من عائلتي ومن بني قومي، بل أعانوني كثيراً، وتنازلوا عن كثيرٍ من متطلبات الزواج، لكني لا أريد أن اظلم الفتاة معي، فلابد أن أوفر لها متطلبات الحياة الكريمة، وهو ما يصعب عليّ ذلك في سوريا نتيجة الأوضاع الحالية، لهذا، وبعدما سمعت عن الحال الذي يعيشه الناس، تحت سيطرة الدولة الإسلامية، قررت اللجوء إليهم لعلهم يعينونني على أمر الزواج والعيش في سكن لائق، وهو ما دعاني للمجيء إلى الموصل، بعد نصيحة أحد الثقاة لي في سوريا..

يقول (يوسف):

كان عليّ التوجه إما إلى الرّقّة، أو إلى الموصل، لكني وجدت الطريق إلى الموصل اسهل عليّ من الوصول إلى الرّقّة، رغم المخاطر، ورغم إنني لم أكن أملك المال أساساً للتنقل، لكنني، يضيف (يوسف)، توكلت على الله، وخرجت طالباً من ربي التيسير للوصول إلى الدولة الإسلامية..

وهنا استوقفته للسؤال عن الطريق، وعن كيفية التغلب على موضوع عدم إمتلاكه المال للقيام بهذه الرحلة الطويلة والشاقة، والتي توجب عليه التنقل بأكثر من سيارة إجرة واحدة، كما هو متعارف عليه، حسبما أعلم، ما يعني حاجته للكثير من المصاريف المادية!!

فقال، وهو يبتسم:

هل تصدقون، لم أدفع ليرة، أو دينار واحد، بل إنني حصلت على المال في الطريق!!

فتح جميع الجالسين أفواههم وهو يستمعون، إستغراباً لما يتحدث عنه (يوسف)، الذي أكد أن كل من ركب معهم، كانوا يرفضون تقاضي إجرة النقل منه، بل أن بعضهم زاد على ذلك، كما يقول (يوسف)، بأن دفع له من جيبه مصاريف الطريق، لمساعدته في إكمال طريقه نحو الموصل..!

كان (يوسف) يتحدث، وكإنه يريد أن يخبرنا إنه لم يُخطئ في مساره هذا، سواء في إعتناق الإسلام، أو في توجهه نحو الدولة الإسلامية طلباً للمساعدة!

يواصل (يوسف) رواية قصة وصوله إلى أراضي الدولة الإسلامية بالقول:

حينما وصلت إلى الموصل، وأخبرت السيطرات الأمنية بمقصدي، وما جئت لأجله، كنت اُلاقي الترحاب وكلمات منهم تُذهب عني تعب السفر وطول مسافته، وأرشدوني للمجيء إلى المحكمة للقاء القاضي..

يضيف (يوسف):

حينما وصلت وتوقفت السيارة أمام المحكمة، رفض سائق التاكسي أن يتقاضى مني إجرة النقل، رغم وصولي إلى المكان الذي كنت أقصده، وهو المحكمة، حسبما نصحني وأخبرني بذلك (الإخوة) في سيطرات الدولة الإسلامية، إذ لم أعد بحاجة إلى مال للطريق، إلا أن سائق التاكسي أبى إلا أن يمنحني بعض المال، لعلي احتاجه في ما بعد، كما أخبرني، وهو الذي اشترى لي (سندويشات) من أحد المطاعم داخل الموصل!

كان الجميع يترقب أن يحدثنا عما جرى له لاحقاً بعد ذلك في المحكمة، وهو ما كان، حيث واصل (يوسف) الحديث قائلاً:

قابلت القاضي، وقد رحب بي كثيراً، وأكد لي إنني هنا بين أهلي، وإنني اخترت الطريق الصحيح في طلب المساعدة، وقد سألني بعض الأسئلة مستفسراً عن بعض الأمور، وطلب مني الإنتظار اليوم، أو لغاية الغد، ووعدني أن الدولة الإسلامية ستتكفل بكافة تفاصيل زواجي وسكني ومعيشتي ما دمت اُقيم على أرض الدولة الإسلامية..

سألته بعد ذلك، عما ينوي فعله، إن خرج من هنا، فاكد لي أن أول أمر سيعمله، وبعد الذي رأه، أن يسارع بالعودة إلى عائلة خطيبته والزواج منها في الحال، وإصطحاب زوجته بعد ذلك إلى الموصل مباشرة، ليعيش في كنف الدولة الإسلامية..

وهنا أخذت اتحدث معه، بعد معرفة قصته، عن حب الله له، وقد إختاره من بين كثير، وأن مسؤولية كبرى ملقاة على عاتقه الآن، وإنه أهلاً لها..

كنت اتحدث له بذات الكلام الذي كنت اكتبه للأخت الأوربية المسلمة التي إعتنقت الإسلام يوماً، بعدما جعلني الله سبباً في هدايتها، فقد كنت انظر للأمر من منظار واحد، وإن اختلفت الأسباب والمسسببات والشخوص..

كنت احدثه إننا نحسده اليوم جميعاً، لإنه يدرك عظمة الإسلام أكثر منا، نحن الذين ولدنا، وعشنا، وتربينا، وترعّرعّنا في كنف الإسلام، ولإنه أعلى مقاماً ومنزلة عند الله منا، لإننا ولدنا في عائلة مسلمة، في حين إنه تخلى عن قومه، وعن عائلته، وعن أبويه، طمعاً في إعتناق هذا الدين، وهاجر لينجو بدينه متحملاً غربة وضيق الدنيا..

كنت أتحدث إليه، في وقت كان هو يردد كلمات الحمد والثناء والشكر لله، في وقت كنت الحظ دموع (أبو عمر) تنهمر، دون أن أدري أي جزء من قصة هذا الشاب بالتحديد كانت السبب في نزول دموعه، لكني خمنت أن القصة بمجملها يذيب لها الصخر الجلمود، فتبكي وتخشع لتفاصيلها القلوب قبل العيون..!

أكثرت من الحديث مع (يوسف)، ثم ما لبثت أن توجهت بالكلام إلى الجالسين، وأنا (أعيّرهم) بـ(يوسف)، وبقصته، وأخذت اخاطبهم بلهجة شديدة، من شدة تأثري بقصة (يوسف)، حتى خُيّل لي للحظة إنني على منبر ذلك المسجد الذي كنت اخطب فيه يوماً بأوربا..!

حدثتهم عن عظمة الإسلام، الذي هجرناه، فهجرنا..

حدثتهم عن الذنوب والمعاصي التي أغرقتنا، حتى جاءت بنا إلى هنا..

حدثتهم عن نظرة الآخرين إلى الإسلام، ذلك الذي ننتسب إليه اسماً، لا عملاً..

حدثتهم عن الخير العميم الذي هم فيه، وشرع الله يقام بينهم اليوم، ورغم ذلك هم يرتكبون الموبقات التي تأتي بهم إلى هنا..

كانت العيون الشاخصة إلى (يوسف) وهو يتحدث، قد استقرت في الأرض خجلاً، وأولهم عيناي، التي بقيت تتنقل بين الأرض وبين وجوه الجالسين ممن كنت اوجه كلامي لهم، رغم كم العار الذي كنت أشعر به، كمسلم، أمام قصة هجرة هذا الشاب الباحث عن حلاوة العيش تحت ظلال دولة الإسلام، وعن عظيم تقصيري بحق ديني..!

واصلت حديثي، وتهجمي على نفسي قبل غيري، ولم يقطعه إلا صوت الحارس وهو يعلن عن قائمة لبعض السجناء، كان من بينهم (أبو عمر)، الذي نهض وهو يقول:

إدعو لي يا (أبو قسورة) أن يكون الفرج قريباً!

قالها، وعيناه ما تزالان تذرفان الدمع، الذي تختلف ربما أسبابه ومسبباته!

كانت المفاجأة، أو (الفاجعة)، إن صح القول، بالنسبة لي، هي أن (أبا عمر) من بين المغادرين، وهو ما جعلني احتضنه واُقبل رأسه، خشية عدم رؤيتي له ثانية، فالحراس، لم يبلغونا إن كانت القائمة للأفراج أم للنقل إلى السجن الكبير، لكننا تعاهدنا أياً يكن الحال، إننا سنعود لنلتقي من جديد، خارج هذا المكان..

نادى الحرس على الأسماء، وطلبوا منهم الإستعداد للمغادرة، وكان اسم (أبو عمر) في ذيل القائمة، فغادرني، وسط مشاعر اختلجت بين فرح وترح، فرح لخروجه من هذا السجن، وترح لتركه لي هنا، وأنا الذي أحببت صحبته..!

سادَ الصمت، وحل السكون بعد مغادرة هذه الوجبة من السجناء، فالبعض كان يُمنيّ النفسي بأن يكون هو من بين من يخرج من هذا السجن، فيما انزويت أنا وحيداً في ذلك الركن، بعد مغادرة (أبو عمر) لي، فالحق أقول، إنني شعرت بالحزن، فقد استذكرت كثير من رفاقي المعتقلين، ممن كانوا معي في سجون القوات الأميركية، إذ كنا نتعاهد حينها على اللقاء خارج أسوار السجن، لكن دون أن يتمكن أحدنا من لقاء الآخر، بل ودون أن نعرف حتى مصير بعضنا البعض لغاية اليوم، لكني كنت اُمنيّ النفس واُعلّلها إنني في دولة الإسلام اليوم، والوجوه فيها لابد أن تتلاقى، مهما شط بها الزمان هنا أو هناك!

قبل أن يغادر (أبو عمر) رأيته يتحدث إلى (أبو فهد)، المسؤول الإداري للقاعة، وهو يشير إليّ، في وقت كان (أبو فهد) يمسح على شعر رأسه الذي لم يتم حلاقته له، كونه كان شاهداً في القضية التي جاء بسببها، لا أكثر، ثم لاحظته وهو يشير لـ(أبي عمر) بأصبعه إلى عينيه، فهمت من خلالها أن صاحبي (أبو عمر) كان يوصيه بي خيراً، وهو بدوره كان يطمئنه بالقول: (في بطن عيني)، كما يقال بالعراقي، أو هذا ما فهمته على الأقل!

كان (أبو عمر) قد أبلغ حينها (أبو فهد) بحقيقة هويتي الصحفية، دون أن يبلغه سبب وجودي، فلقد سمعته يهمس لصاحبه في القضية بإنني شخصية (چبيرة)، كما وصفها باللهجة، أي معروفة، فضحكت في نفسي على نفسي التي أراها لا تعدل ذرة تراب تعلق في نعل مجاهد في سبيل الله، بل ولا ارقى إلى منزلة شعرة في رأس الشاب (يوسف)، الذي ترك الأهل والقوم والديار والأصحاب في هجرته إلى الله..!

معرفة هويتي الـ(چبيرة) في نظر (أبو فهد) هو الذي دفعه أن يطلب مني إمامة السجناء في صلاة الفجر، بعد أن استيقظنا من النوم لإدائها، أو بالأحرى، استيقظ القوم لها، فأنا لم يزر النوم مضاربي، بعدما أخذت سفن الذكريات المؤلمة في معتقلات الأميركان وشيعة الرفض، وأيام قصيرة جميلة قضيتها بصحبة (أبي عمر) تموج بي في بحرها المتلاطم الأمواج.. !

رفضت طلب (أبو فهد) في إمامتهم بالصلاة، وطلبت أن اكتفي برفع الآذان، وهو يتكفل بالإمامة في الصلاة، فحينما قبلت بها في بلاد الغرب، إنما خضت غمارها لعدم وجود من يقوم بالأمر، أما في بلاد الإسلام فأقسمت على نفسي أن لا اقترب من الخطابة أو إمامة المسلمين، وأنا المثقل بالذنوب والمعاصي، وأولها تأخر الهجرة إلى أرض الخلافة، والإكتفاء بالذّودِ عن المجاهدين فقط بالكتابة، والذّب عنهم باللسان، فيما تأخرت عن نصرتهم كل هذا الوقت بالسنان!
صلى بنا (أبو فهد)، بعد أن تكفلت برفع الآذانيين والإقامة، وما أن حلّ الصباح حتى جاءت البشائر بخصوص الشاب (يوسف)، الذي أخبره الحارس بأن يستعد للخروج، بل وراح يهنئه لحظة خروجه، على ماذا، لا ندري، فالباب اُغلق خلفه، واُغلقت بوجهنا معرفة النتائج، رغم أن النتائج قد ذكرها (يوسف) مسبقاً، والمتمثلة بوعود المساعدة على لسان القاضي، والتكفل بكل شيء!

مرّت ساعات اليوم موزعة بين قادمين جدد ومغادرين بعد العرض على القاضي، وهنا جاءني بعد منتصف النهار (أبو فهد) وهو يخبرني بوصول صحفيين إثنين، وإنهما يعرفاني، وسرعان ما ذهب ليعود بصحبتهما ليجلسوا على فراشي..!

سلّم عليّ زملاء مهنتي، وقبل أن اسألهم عن سبب وجودهم هنا، كعادة أول الأسئلة، بادراني بالترحاب الحار وهما يلتقيان بي، ولإنني لم أكن أعرفهما، أو اسمع بهما من قبل، كونهما يعملان في قناة محلية هي (نينوى الغد)، فقد كان ترحابي بهما محفوفاً بالحذر، خصوصاً إنني اُدرك أن غالبية الصحفيين والإعلاميين في وسائل الإعلام التابعة للحكومة (الشيعية – الكردية العلمانية) إنما هم أدوات إعلامية رخيصة تُنفذ أجندات ومخططات خبيثة لمحاربة أهل السنة والجماعة في بلاد الرافدين، إلا من رحم ربي..!

سألتهم عن القناة التي يعملان بها، وعن طبيعة البرامج التي كانا يشاركان فيها وينتجانها، فاكد لي أحدهما، ويدعى (غزال إبراهيم) إنه يعمل مصوراً ليس إلا، وهو يقوم بتصوير ما يتم تكليفه به من إدارة القناة، وخصوصاً ما يتعلق بالمشاريع الخدمية في المحافظة، كما يقول..!

أما صاحبه فقد كان يعمل مقدماً لبرنامج يذاع بشكل إسبوعي من على ذات القناة، وهو الآخر كان يؤكد لي أن برنامجه لا علاقة له بالسياسة..

كان الصحفيان يتحدثان إليّ بخشية واضحة للعيان، وكانا يدافعان عن أنفسهما، وكإنني من يوجه لهما التهم، فكانا ينفيان عن نفسيهما تهمة الإرتباط بالحكومة، حتى دون أن أسالهما أو أتطرق لأي من هذه الأمور بعد!

الإعلامي الثاني، الذي يخونني عُطب ذاكرتي من تذكّرِ اسمه، كان مرعوباً أكثر من المصور (غزال)، وهو يسألني عن حُكمهما، بحسب توقعي، خصوصاً وإنهم يعرفان خطي، كما يقولان، ولربما ذلك يؤهلني لتوقع عقوبتهما، كما يظنان.. ولا اعرف حقيقة الأمر هل كانا بالفعل يعرفاني، كصحفي، أم إنهم يدعيان!

سألتهما أولاً عن التهمة التي تم اعتقالهما بسببها، فقال مقدم البرامج، الذي ذهب اسمه من بالي مع الريح:

هناك من إتهمنا بإننا لا نزال نعمل مع القنوات، وإننا نرسل لهم الأخبار من داخل الموصل، مع إننا تركنا المهنة، وأصبحنا نعمل في مهنة ملئ وبيع زجاجات الماء، والتي كنا نمارسها قبل أن نحترف الصحافة سوية!

قلت لهما:

وهل كنتما لوحدكما، أم أن هناك صحافي ثالث برفقتكما!؟

إندهشا الأمر، فظنا إنني على دراية بقضيتهم، فقالا:

صدقت، فنحن ثلاثة، وزميلنا الثالث تركناه في السجن الكبير، ولم يحضروه معنا إلى هنا اليوم، ولا ندري لماذا!

ثم أضاف المتحدث (غزال):

والصحافي الثالث إنما هو أخي (محمد إبراهيم)، مراسل وكالة (الأسوشيتدبرس) في الموصل، ولكن كيف عرفت!؟

وقبل أن اُجيبهم على سؤالهم، سألتهم سؤالاً آخرَ:

كيف تم إعتقالكم ثلاثتكم!؟

فردّ عليّ (غزال)، ذلك الشاب النحيل الطويل، الذي كان في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من العمر، بالقول:

جاءتنا الشرطة الإسلامية وأبلغتنا بضرورة مثولنا أمام القاضي، وبرفقتهم كتاب الإستدعاء، فتم إصطحابنا إلى المحكمة للمثول أمام القاضي..

قلت:

يعني كل شيء تم بشكل طبيعي وروتيني، وليس كما صورته وسائل الإعلام!؟

قال لي مندهشاً:

وهل تطرقت وسائل الإعلام إلينا!؟

قالها وهو ينظر إلى زميله، مقدم البرامج، الذي كان أكثر إندهاشاً من المصور (غزال) نفسه!

قلت:

قناة (العربية) تحدثت، قبل إسبوع تقريباً، إنه جرى إختطاف ثلاثة صحفيين كانوا يزودون وسائل الإعلام بالأخبار من داخل الموصل سراً، وأظنكم المقصودين!

هذه المعلومات التي اخبرتهم بها كنت قد سمعت بها عبر وسائل الإعلام قبل أن أصل إلى حدود الدولة الإسلامية، فقد ورد خبر على لسان مراسل قناة (العربية)، (إسطوانه الغاز) أحمد الحمداني، من فندقه بأربيل، الذي أكد إنه تم إختطاف ثلاثة صحافيين في الموصل على أيدي من اسماهم بـ(داعش)، وإنه يتوقع العثور على جثثهم مرميّة على قارعة الطريق في أية لحظة، أو على الأقل العثور على بقايا رؤوسهم بعد فصلها عن الأجساد، كما يتوقع، بعد أن تحول هذا المعتوه من مراسلٍ غير محترم لقناة غير محترمة، إلى محلل عاهر في قناة عُهر!

وهنا أخذ الصحفيان يلطمان على رأسيهما، من شدة الرعب، حيث قال المصور، بعدما أخذ يسبُّ ويشتمُ بوسائل الإعلام، على كذبها الذي أرعبه مع صاحبه، خوفاً من النتائج السلبية التي قد تحدثها مثل هذه الأخبار على قضيته، كما يبدو:

والله لم نكن على تواصل مع أي من وسائل الإعلام، وهذه القناة كاذبة، وتفتري علينا، والله إننا نزاول أعمالاً مدنية، لا علاقة لها بالإعلام، فيما أخذ زميله، مقدم البرامج، بدعك عينيه، وهو يقول بلهجة موصلّية:

(بس لا القاضي يشوف قناة العربية)! إذ تخوف، مقدم البرامج، من مشاهدة القاضي لقناة (العربية)، فيصدق ما تتحدث به القناة، زوراُ وكذباً، عنه وعن زميليه!

وهنا تدخلت مقاطعاً:

وماذا أخبرتما القاضي!؟

فأكدا إنهما اقسما له إنهما يمارسان عملاً عادياً، يتكسبان من خلاله لقمة العيش، بعيداً عن الإعلام..

ثم اكمل مقدم البرامج في قناة نينوى الغد كلامه بالقول:

لقد أعلنا التوبة أمام القاضي عن العمل الإعلامي مع الحكومة السابقة، وهو وعدنا خيراً، وأكد لنا إننا سنعود إلى بيوتنا قريباً جداً..

ثم أضاف:

هل تتوقع أن القاضي يتراجع عن وعده!؟

فأجبته:

الله أعلم!

كان الصحفيان قد تم عرضهما على القاضي سابقاً، وهما الان هنا ليتم عرضهما للمرة الثانية عليه، وما هي سوى دقائق حتى نادى الحراس على أسمائهما ليتم عرضهما على القاضي من جديد..

مرت قرابة الساعة، قبل أن يعودا مستبشرين، ووجهما يتهلل من شدة السرور، بعد كل ذاك الرعب الذي كان يسيطر عليهما لحظة مغادرتهما القاعة إلى قاعة المحكمة..

وقبل أن اسألهما عن النتائج بادرني المصور (غزال) بالقول:

أبشرك، إفراج، وأكد لنا القاضي إن اليوم سنكون عند أهلنا، إن شاء الله تعالى..

قلت له، وصاحبك:

وكان زميله يتحدث إلى معتقلين آخرين في مكان آخر من القاعة، ليرد على إستفساراتهم، وما قاله للقاضي، وما قاله القاضي له، وكما هو متعارف يجب نقل كل التفاصيل التي جرت داخل قاعة المحكمة بدقة، وإلا فإن اسئلة السجناء وإستفساراتهم لن تتوقف، ولن تنتهي!

فردّ عليّ:

الإثنان!

سألته عن أخيه (مراسل الأسوشيتدبرس)، فأكد لي إنه بقي خلفه في السجن الكبير!

وما أن حل الليل، وفور الإنتهاء من العشاء، وقبل أن تبدأ إستعداداتنا للنوم، طرق الحراس باب قاعة السجن، وتلوا علينا قائمةً، تضمنت أعداداً من السجناء، مطالبين إياهم بالإستعداد للخروج، وكان من بين من شملتهم قائمة الإستعداد للخروج زميلاي الصحفيان، المصور (غزال إبراهيم)، ومقدم البرامج في قناة نينوى الغد، فمن عادة المحكمة إخلاء سبيل السجناء والمعتقلين ليلاً، حيث يتم إيصالهم إلى مناطق وأحياء الموصل، أما من كان يقطن في مناطق أخرى خارج الموصل، فكان يتم الإفراج عنه نهاراً!

بقيت لوحدي، بعد أن خرج الكثير ممن كانوا بجانبي، بل أن القاعة قد انخفض عدد نزلائها إلى النصف تقريباً، بعد عمليات إطلاق السراح، والنقل إلى السجن الكبير، لمن لم يتم حسم قضيته بعد..

كنت أجلس على فراشي، ممسكاً بمصحفٍ، وبجانبي على الشمال، في ركن القاعة الأخير، شخصٌ لا يتزحزح من مكانه، إلا نادراً، لثقل وزنه وفرط بدانته..

كان رجلاً في الستينات من العمر، يدعى (عوني)، سألته عن تهمته، فأكد لي إنه مرشح سابق لمجلس النواب، والذي يطلق عليه سكان بلاد الرافدين (مجلس الدواب العراقي)..

كان ذلك المرشح اُستاذا جامعياً، وكان دائم الصمت، عكس حال جميع النواب و(النائبات) في مجلس الدواب العراقي، كما يسمى، والذي رشح نفسه إليه في ما مضى!

سألته عن عدد المرات التي عُرض فيها على القاضي، فأكد لي إنه لم يعرض على القاضي بعد، لكنه، كما يقول، يعرف حكمه مسبقاً!

سألته عما يعنيه بمعرفته الحكم مسبقاً، فوضع صف أصابع كفه على رقبته، ثم أخذ يحركها شمالاً ويمين، كحز السكين، تعبيراً عن أن النحر والذبح هو حكمه..!

قلت له:

أنت استاذ جامعي، كيف ورطت نفسك والقيت بها في هذا البئر!؟

ردّ عليّ، وهو يندب حظه العاثر:

(فينة حظ، قشمروني)! إذ كان يرى أن من سوء حظه، أنه وقع ضحيّة من طلبوا منه، وطبّلوا له!

ثم أخذ يسألني عن رأيي وتوقعي في الحكم الذي سيناله، مع إنه، هو نفسه، يتوقع النحر، وهنا ما كان مني إلا أن عملت من كفي شكل مسدس، ووضعت اصبعي على صدغي بجانب رأسي، ثم قلت بفمي، (بمب)، تعبيراً عن صوت الرصاصة التي تنطلق من المسدس، ما يعني بالتالي أن توقعي للحكم الذي سيصدر عنه هو إطلاقة في الرأس، كمحاولة مني لتقليل خوفه من طريقة النحر والذبح، تلك التي كان يتوقعها، لكني، ورغم محاولتي التخفيف عنه بتوقع القصاص منه برصاصة في الراس، بقيت أشاهد علامات الموت بين عينيه!

شعرت أن هناك من كان يستمع لنا، حيث كان يجلس بجانبي على الجهة الأخرى شخص في نهاية عقده الرابع، بذقن أشيب، وشعر خفيف لم تمنعه الحلاقة من معرفة إنه بقايا شعر ليس إلا!

قلت له، وهو الذي كان يرتدي ملابس رياضية:

وصلت اليوم أنت؟!

ردّ عليّ بالإيجاب.

قلت له:

وبأبي مَن ندعوك!؟ وهي طريقة تحايلية لمعرفة الاسم، دون أن يكون السؤال بشكل مباشر (ما اسمك):

قال لي:

أبو نور، صباح..

قلت:

مرحباً بك (أبو نوري)، وهي الكُنية التي كنّا نُطلقها على كل من يحمل اسم (صباح) في أرض النهرين، قبل أن تتطور الكُنية مع مرور الوقت وبداية التحضر المغشوش لتصبح (أبو نور)، بعدما تم حذف الياء، والذي قد يلحق به الراء يوماً، كأحد مستلزمات دلع آخر الزمان ورومانسيته!

سألته كذلك:

متى تم إعتقالك؟

أجابني:

تم إعتقالي بالأمس!

وما هي تهمتك؟!.. هكذا سألته:

قال، وبكلِ وقاحة:

الإنتماء إلى حزب (دولة القانون)!

ودولة (الفافون)، كما عدّل أهل السُنّة والجماعة تسميتها، هي التي يقودها خنزير الرافضة، المجرم، رئيس وزراء حكومة المنطقة الخضراء السابق نوري المالكي!

وما أن سمعت التهمة، والاسم، حتى شعرت وكإن لغماً أرضياً إنفجر تحت أقدامي، فقلت له، بعدما اعتدلت في جلستي بسرعة خاطفة:

يعني أنت في حزب المالكي !!!؟

فردّ عليّ، بإيماءة بعينيه، دلاله على التأكيد، دون أن يتكلم .. ثم صمت عدة ثوان، قبل أن يَعقب ذلك بكلمة (كنت)!

ثم قلت له بعصبية اجتاحت كل جزء، وكل عضو، وكل خلية من جسدي، الذي أخذ يرتجف، من شدة الغضب الذي خيّم وسيّطر عليّ:

وبالتأكيد تريد أنت أيضاً أن تعرف ما حكمك بحسب رأيي وتوقعي!!؟

فردّ عليّ، وكإنني أهديته المنطقة الخضراء المحصنة بكاملها، مع مجلس نوابها، ومع وزرائها:

ياريت اُستاذ..!

قلت، وبعصبية مفرطة:

أنت حكمك، ليس الذبح، ولا إطلاقة في الرأس، بل التقطيع بالسكاكين وأنت حي، ثم سلخ الجلد عن اللحم، ثم اللحم عن العظم، ثم ثقب العظام وجعلها ميداليات، قلتها ليس توقعاً ولا رأياً، بل اُمنية بحكم يصدر، وأكون أنا المنفذ، من فيض غيضي على أولئك المدعين الإنتساب إلى أهل السُنّة والجماعة، وهم أدوات خسيسة رخيصة وضيعة بيد الشيعة الرافضة، وبيد ملاحدة الكرد العلمانيين، وقبل ذلك بيد أميركا وإيران ضد أمة السُنّة والجماعة، هذه التي تباد اليوم على يد أقلية شيعية رافضية، وبواسطة حثالة كردية علمانية، حتى جعلوا من هذه الأمة العظيمة طائفة ليس إلا، ليس بعددها، وهي التي تجاوزت الملياري غُثاءة من زبد البحر، إلا طائفة منصورة، بل بقيمتها في نظر أعدائها! 
بعد كلماتي النارية تلك، بُهتَ الذي انتسب لحزب المالكي الرافضي، ذلك الذي أعلن وجاهر بعدائه لكل مدن وسكان وحاضر ومستقبل أهل السُنّة والجماعة، أينما وجودوا وكيفما كانوا، وهو ما جعل (صباح)، عميل المالكي، يخاطبني بالقول:

اُستاذ، والله كنا مجبرين!

فضحكت سخرية من قوله، دون أن أرد عليه، ثم اشحت بوجهي عنه، تعبيراً عن إزدرائي منه، ومن قوله، ومن وجوده..!

وقتها لاحظت أن هذا الشخص يكثر من الحديث مع أحد الشباب من المجاهدين، تجاوز عمره العقد الثاني بعام، أو عامين، إذ كان المجاهد الشاب ينام على يمين ذلك المنتسب إلى حزب المالكي..

ذلك المجاهد الشاب كان قد جاء إلى هنا بقضية مشتركة مع مجاهد آخر، فقد كانا من ضمن أعضاء نقطة تفتيش، حيث قام أحد عناصر نقطة التفتيش تلك بالإشارة إلى سيارة مدنية، طالباً من سائقها التوقف في حاجز التفتيش ذاك، وهو ما كان يخالف الأوامر التي تنص على عدم إيقاف السيارات التي يكون بداخلها نساء، إحتراماً لحرائر أهل السُنّة والجماعة، ما دعا المجاهد الآخر إلى تقديم شكوى بحق صاحبه، الذي خالف الأوامر بإجتهاد منه، لينتهي الأمر بمثول الجنديين أمام القاضي، كمتهم وشاهد، وهذا المجاهد الذي كنت أنوي الحديث معه كان الشاهد، والذي لا يخلو موقفه من الإدانة، كونه أكد لي لاحقاً، أنه قد يُدان ربما، وذلك لتصرفه بطريقة عصبية مع زميله الذي خالف الأوامر، ودليل الإدانة، كما يقول، إنه تمت حلاقة شعره كذلك، كحال زميله الثاني، وهو أكثر ما كان يؤلمه، حيث كان يقول أن شعره كان طويلاً، والآن قد ذهب كله، وهو ما يحزُّ في نفسه!

طلبت من جندي الدولة الإسلامية هذا، بعدما أخذته إلى جنب، أن لا يتحدث إلى ذلك الرجل بأي شيء، فهو من عملاء المالكي، ويتوجب الحذر من أمثال هؤلاء، حتى لو كانوا بداخل السجن، فهم كالحرباء التي يتغير لونها، بحسب البيئة التي تتواجد فيها، بل إنهم أجدهم كالأفعى الرقطاء، التي تُبدّل ثوبها بتبدل الفصول، في حين يبقى سمها هو ذات السم الناقّع القاتل!

أكد لي ذلك المجاهد، الذي يعلو الحياء قسمات وجهه، والذي جيء به بملابسه الجهادية، إنه لم يكن يدري بهوية جاره، أو بحقيقة تهمة ذلك الأجير للشيعة الرافضة، وأخبرني عن ماهية الحل، خصوصاً وإنه كان ينام بجانبه، وبجانبي كذلك..!

طلبت منه التّروي، وترك الأمر عليّ، فتوجهت إلى المسؤول عن القاعة، (أبو فهد)، وطلبت منه نقل هذا الشخص من جانبنا إلى مكان آخر، وشرحت له الأسباب، وما هي سوى لحظات حتى توجه إليه (أبو فهد)، طالباً منه تغيير مكانه، وحينما احتج، خاطبه بقوة:

أنت دخلت اليوم، والأماكن نحن من يحددها، وليس على مزاجك، فخضع المنتسب إلى حزب المالكي للأمر الواقع، وحمل (بطانيته) التي يتدثر بها، ثم غادر إلى مكان آخر!

بعد يوم وليلة من ذلك الحدث، ومع غروب شمس ذلك اليوم، في الثلث الأول من كانون الثاني، من العام ألفين وخمسة عشر، وصل إلينا عشرات السجناء ، فأكتظ بهم المكان، بعدما إقترب العدد من التسعين، وهو فوق طاقة القاعة الإستيعابية، حيث لن يكون بمقدورنا النوم، وفق ذلك الوضع والحال، ما لم يكن هناك حل، كأن يتم النوم على شكل وجبات، كما كنا نفعل في معتقلات الأميركان، وخصوصاً في أقسام الأحكام الثقيلة بأبي غريب!

كنا نجلس، ولا مجال للحركة من شدة الزحام، وماهي سوى بضعة عشرات من الدقائق حتى جاءت سفينة النجاة، حيث أعلن الحراس عن نقل كل من كان بالقاعة قبل وصول السجناء الجدد إلى السجن الكبير، وفي لحظات كان الكلُ يتجهّز، ويمسك كل واحد منا بغطاء العين بيده، إستعداداً لعملية النقل إلى المكان الذي لم أذهب إليه بعد، عكس كثير من السجناء، الذين كانوا يترددون بين السجن الكبير، وبين هذا السجن، الخاص بمن يتم عرضه على القاضي حصراً!

أخرَجَنا الحراس على شكل مجموعات، واحدة في إثر أخرى، وكان الحراس بأعدادٍ كثيرة، وهذا ظاهر من الأصوات التي حولنا، والتي كنت أشعر بتعددها بناءاً على تعدد نغماتها، وتنوع أماكنها!

أحد الحراس تحدث بتشنج مع أحد المعتقلين، بعدما كان يكثر من الكلام أثناء السير، وهو ما دعا السجين لإطلاق العنان لصوته، إذ أخذ يتحدث بصوت عالٍ وهو يصف ذلك الحارس بالمتعجرف!

دبّ الصمت في صفوف تلك المجموعة من المعتقلين، الذي كنت أنا من ضمنهم، بعد جلوسنا في السيارة، خصوصاً بعدما جاء أكثر من حارس ليهدأ من روع ذلك السجين، الذي لم يتوقف عن الحديث بصوت عالٍ، مطالباً بحقه من ذلك الحارس، كونه تحدث معه بعنف وتشنج..!

توقفت إجراءات النقل، بعدما وصل إلى المكان أمير مفرزة الحراس، وأخذ يتحدث إلى السجين وسبب إرتفاع صوته، فأكد له أن أحد الحراس عامله بخشونة، وهو يريد حقه منه، وإلا فإنه سيُقاضيهم كلهم أمام الله، إن لم يأخذ له أحد حقه من ذلك الحارس..!

والحق أقول إنني توقعت سماع صوت صفعة على خد، أو رد أكثر خشونة من أمير مفرزة الحراس على ذلك السجين الذي علا صوته، كما اعتدنا أن نجابه به، حينما كنا نُقدِمْ على مثل هذه التصرفات سابقاً في سجون المحتلين الأميركان وأذنابهم من الرافضة والكرد والمرتدين، لكن أمير المفرزة فاجئني، وفاجئ السجناء، وذلك السجين، وقبلنا جميعاً فاجئ الحراس أنفسهم، بإصداره أوامر بعدم تحرك السيارة قبل أن تتم معرفة هوية ذلك الحارس، الذي تعامل بحنّق مع ذلك السجين، ولأن ذلك المعتقل، الذي جاء بتهمة المتاجرة بالحبوب المخدرة، لم يرَ وجه الحارس، فلقد طلب منه أمير المفرزة أن يحدد الحارس من خلال نبرة الصوت، فجاء بالحراس واحداً واحداً، وجعلهم يتحدثون أمام ذلك السجين، الذي كان يصغي لنبرة أصواتهم كي يهتدي إلى (غريمه)، وهو ما حصل، حيث قال أمير المفرزة بعد معرفة هوية الحارس، عبر صوته:

طيب خلاص، إذهبوا بهم الآن، وأنا سأقوم بإجراء اللازم، إن شاء الله! دون أن يحدد لنا، أو لذلك السجين، أمير مفرزة الحراس، طبيعة وشكل ذلك الإجراء، مكتفياً بالقول:

سنأخذ لك حقك..!

ثم أغلق باب السيارة، لتنطلق بنا بعد ذلك إلى السجن الكبير، كما يسمّونه!

سارت بنا السيارة مسافة، تخللتها إنحناءات، وإستدارات، وأصوات منبهات سيارات هنا وهناك، حتى توقفت لننزل بذات الطريقة التي صعدنا بها إلى السيارة، برتل واحد، أحدنا يمسك بظهر ألاخر، والحراس من حولنا أدلاء لنا ومساعدين، حتى طلبوا منا خلع غطاء العين، لنجد أنفسنا أمام باب قاعة كبيرة، ما أن دخلتها حتى وجدت صاحبي (أبو عمر)، وهو يلوّح لي بيده من بعيد، وينادي:

حيا الله أبا قسورة.. حوّل هنا!

تبسّمتُ، وأنا بين سعادة تغمرني، للقائي بـ(أبي عمر) ثانية، وبين حزنٌ على بقائه في السجن، بعدما كنت، وكان قبلي يُمنّي النفس بالخروج، والعودة إلى سوح الوغى والجهاد!

تعانقنا، أنا و(أبو عمر)، من جديد، ثم أخذ يُقدّمني إلى زميله، وصاحبه، وساعده الأيمن في السجن الكبير هذا، (أبو عبدالله)، المسؤول الإداري للقاعة، والذي يتلقى أوامره من (أبي عمر)، ثم راح، رفيق سجني، يطيل الوصف، ويكيل الثناء والمديح لي، أمام (أبو عبدالله)، مع أن جُلّ أمنياتي كانت، ولا تزال، أن أكون شعرة في شارب (أبي عمر)، أو ذرة تراب تَعْلَقُ في هندام، أو حذاء مجاهد في سبيل الله..!

كان (أبو عمر) يتصدر القاعة من الطرف المقابل للباب، كونه إمامُ وأمير القاعة، وحين وصولي إختار لي (أبا عمر) مكاناً للنوم فيه، وهو المكان الذي يتوسط بينه وبين المسؤول الإداري، (أبو عبدالله)، وكان بالنسبة اليّ موقعاً رئاسياً، لا يحظى به حتى ملك بّروناي، ذو الثراء الفاحش، وصاحب القصور الشهيرة، الفاخرة الطراز!

المسؤول الإداري (أبا عبدالله)، الذي سيكون جاري الجديد، إلى جانب، جاري ورفيقي القديم (أبو عمر)،هو أحد المجاهدين، ممن شاركوا في عمليات تحرير وفتح الموصل، بل هو من قادَ بنفسه عملية تحرير سجن (بادوش)، وإطلاق سراح المعتقلين والأسرى الذين كانوا محتجزين بداخله..

كانت القاعة كبيرةً جداً، تضم قرابة المائتي معتقل ويزيد، ومن سقفها تتدلى خمس وعشرين مروحة سقفية، فضلاً عن إثنين من أجهزة التكيّف الضخمة، إلى جانب ثلاثة من أجهزة التبريد أو التدفئة المسمّاة بالـ(سبلت)، كما يُطلق عليها..

وخُصِصَ مكانٌ في تلك القاعة للأعمار الكبيرة، من أجل زيادة الإهتمام بهم، ومن يرغب في الدخول إلى منطقة الحمامات والمغاسل، فسيُفاجئ بوجود محجّرين إثنين، لكن الطريف في الأمر، أن الكثير من السجناء كانوا يتسابقون للدخول إلى المحاجر، للنوم فيها، رغم رفض الحراس ذلك، وتهديدهم أحياناً بمعاقبة المخالفين، كون هذه المحاجر مخصصة للمرضى، فهما عبارة عن غرفتين معزولتين، تتوفر فيهما وسائل راحة أكثر من القاعة نفسها، وبالأخص الهدوء الذي تتميزان به، مقارنة بصخب القاعة!

خليط عجيب غريب ذلك الذي تحويه كواليس الدولة الإسلامية في جانبها المخفي، المتمثل بذلك السجن الكبير..!

شعور متناقض داهمني، ففي بداية الأمر، هالتني هذه الأعداد الضخمة من المعتقلين، المتجمعين في سجن واحد، وكان شعوراً كئيباً لمستقبل مظلم، قبل أن يتبيّن لي أن هذا السجن، الذي صدمني أعداد نزلائه ومعتقليه أول الأمر، وبعدد فاق المائتي شخص، إنما هو الوحيد في الموصل، ما جعله مكتظاً لهذا الحد.. فكل الموصل والمدن المحيطة بها تلقي بخزينها الجرمي في هذا المكان، بضمنها تواجد عشرات من المجاهدين معهم، هؤلاء الذين هم خير من وطئ الثرى على ظهر هذه البرية، بعد الأنبياء، وكثير منهم ما جاء إلى هنا إلا لأسباب قد تزيد من أمنيات تقبيل الأرض التي تطأها أقدامهم أكثر، فالمراكز الأمنية المنتشرة في مدن الحدباء مُلزمة بإرسال المذنبين مباشرة إلى هذا السجن، دون تأخير، ليتم حسم قضاياهم أمام المحكمة، وبأسرع وقت، ومن يتجرأ على التأخير سيجد نفسه بين هؤلاء السجناء والمعتقلين، كعقوبة على تأخير قضايا المعتقلين، كما تبين لي لاحقاً!

تأملت ثانية أعداد المعتقلين، فالمائتي معتقل ونيف من العشرات، يشكل المجاهدون منهم ما نسبته الربع، بحسب تقديراتي، في بيئة سكانية مليونية تقترب من الأربعة ملايين ويزيد، إنما هو أمر يدعو للتساؤل، فأن تصل نسبة الإنخفاض في الجرائم إلى هذا الحد، فهذا أمر يدعو للوقوف عنده، وحينما تجدون من دخل إلى هناك، ورأى بنفسه حقيقة الحال، فاستمعوا له، فمن النادر أن تجدوا من يجهر لكم بالحق في عالم أدمن الكذب، وأحترف التزييف لعقود وعقود!

جولة سريعة قمت بها في أنحاء القاعة، فلقد خشيت أن يتم نقلي، أو الإفراج عني في أية لحظة، دون أن أتمكن من الوقوف على هذا الكم الغزير مما يسيل له لعاب الصحافيين والإعلاميين، المتهافتين والباحثين عن المهالك من أمثالي!

شدني أول الأمر رجل أربعيني، ببزّة جهاده.. سألته، بعد السلام، عن سبب وجوده!

تحدث إليّ بلغة عربية، لا تخلو من مفرداتها من أخطاء التأنيث والتذكير، فعلمت أن من أتحدث إليه، إنما هو (عفري)، أي من مدينة تلعفر، التي يتحدث أهلها اللغة التركمانية، القريبة من التركية، وهؤلاء القوم تبقى لغتهم العربية تشوبها بعض الكلمات الدخيلة، التي تكشف عن هويتهم التأريخية..

كما أن هؤلاء القوم عُرف عنهم التشدد في مجال الدين، فبإمكانك أن تسلب من (العفري) ملابسه، من شدة كرمه وطيبه، لكنك لن تقوى أبداً أن تسلبه دينه، ولهذا كانت (تلعفر) يوماً، واحدة من قلاع التوحيد في زمن أمير الإستشهاديين، أبو مصعب الزرقاوي، تقبله الله، بل ولهذا كان هذا الرجل الأربعيني في هذا المعتقل، (أبو محمد) ذاك الذي كنت أحدثه، قد ترك أطفاله وعائلته، وتمرد على الأوامر، وهرب من قاطع (تلعفر)، نحو قاطع (الكسك) في الموصل، والسبب أن قاطع (تلعفر) كان آمناً، وقاطع (الكسك) كان مشتعلاً بمواجهات حامية الوطيس مع ملاحدة البيشمركة الكردية، فأراد الإشتراك في المعارك، وليس في حفظ الأمن في مدينة (تلعفر)..!

يقول (أبو محمد)، ذو السن الضاحك، دائماً:

بالله عليك، أتقبل أن أجلس في (تلعفر)، والمعارك على أشدها في قواطع أخرى..!!

سألته عما فعله، فأكد أنه هرب من قاطعه، وترك أهله، وألتحق بقاطع (الكسك)، فتم إعتقاله، وإعادة تسليمه لقاطعه الأول في (تلعفر)، الذي أحاله إلى المحكمة لمخالفة الأوامر، فالتمرد على الأوامر، يراه اُمراء جيش الدولة الإسلامية، أخطر من مواجهة العدو، فسرُّ هذه الإنتصارات الربانية، التي ساقها الله لجند الخلافة، إنما يتمثل في شدة إنضباطهم العسكري، رغم وجود بعض الحالات الشاذة، التي تكون بالتالي سبباً لوصول المجاهد إلى قعر السجن، كما هو حال مجاهد آخر، التقيت به بعد (أبو محمد)، حيث وجد معه هاتف جوال في معارك، تنص الأوامر فيها على حُرمة حمل الهواتف والجوالات، حتى وصل الحال بالخليفة نفسه أن تبرأ من كل من يحمل هاتفاً في معركة، ولهذا فكلُ من يحدثكم عبر مواقع التواصل الإجتماعي، ويردد على مسامعكم إنه يكتب لكم، ويحدثكم في لحظته، من قلب المعركة، فاعلموا، بناءاً على ما رأيت، أنه: إما كاذب، ويسخر منكم، أو إنه بالفعل جندياً، لكن قد تبرأ الخليفة من فعلته، ومكانه المفترض في كبدِ هذا السجن!

شاب في منتصف العشرينات، شدّه تنقلي هنا وهناك منذ لحظة وصولي، إقترب مني وسألني عن مهنتي، فقلت له، وأنا أوزع النظرات في الوجوه هنا وهناك:

مخدرات!

فردّ عليّ، وبلا إكتراث:

سيتم جلدك ثم تخرج!

قلت:

وما تهمتك أنت!؟

فرد عليّ، وهو يضع كلتا يديه على صدره، ماسكاً بكفيه كتفيه:

سرقة!

فأجبته بذات طريقته في عدم الإكتراث:

ستُقطع يدك وتخرج!

وحينما أدرك إنني اجبته بطريقة (واحدة بواحدة)، ضحك ساخراً مني، قائلاً:

لا أظن، فلربما قد يتم معاملتي كما حدث مع الشابين اللذين اُفرج عنهما اليوم!

شدتني عبارته، وأخذت أتكلم معه بجدية أكثر عن قصة الشابين اللذين يتحدث عنهما..

قال (محمد)، وكان هذا اسمه:

لقد اطلق القاضي اليوم سراح شابين صغيرين من هنا، اُتهما بالسرقة، وقد أكرمهما رغم إنهما سرقاً محلاً تجارياً..!

أراد (محمد) التوقف عن الحديث، مكتفياً بهذه المعلومة، لكن كيف له أن يتوقف عن الحديث، وهو قد فجر عبوة لاصقة في وسط عقلي، فقلت له:

اكمل، اكمل!

فأدرك إنني أريد كل التفاصيل، المعلنة والمخفية عن القصة، دون أن يدرك إن شهادته هذه، رغم إنها صادرة من مجرم خطير، كما عرفت لاحقاً، إلا إنها تعدل عندي شهادة نصف العالم، الذي يدعي البراءة من حولنا..!

واصل (محمد) حديثه، فأخذ يتفاعل أكثر وهو يسرد التفاصيل، بعدما وجد أخيراً، ربما، من يصغي له لهذه الدرجة المجنونة، حيث قال:

إخوة بعمر المراهقة، سرقا محلاً، وتم القبض عليهما من قبل الشرطة الإسلامية، وقد إعترفا بالسرقة، فجاءوا بهما إلى هنا!

قلت:

هم من (الإخوة)، تقصد إنهما من المجاهدين!؟

فأجابني :

لا، لا، ما قصدته أن اللصان كانا أخوين.. اعقبها بضحكة، ضحكت حينها على نفسي، لإني تناسيت للحظة أنني في حضرة اللهجة الموصلّية، التي تُسحر العقول، وتخالف المعقول أحياناً!

ثم أردف (محمد):

بعد أن سألهما القاضي عن سبب السرقة، أكدا إنهما من عائلة فقيرة، وليس لديهما المال، ولا عمل في أيديهما يسترزقان منه قوت يومهما، وأن أباهم مصاب بالشلل، فأضطرا إلى السرقة من ضيق الحال وشدته..!

وهنا أمر القاضي - يواصل محمد- بجمع المعلومات الإستخبارية عن هذه العائلة، التي أكدت صدق كلام اللصين، اللذان كان أحدهما في الخامسة عشرة من العمر، والثاني في السابعة عشرة، بل وكشفت المعلومات إن عائلتهم مهجرة من منطقة أخرى يسيطر عليها الأكراد، وأنه تم إختطاف إخت لهم على يد البيشمركة، وبقيا لوحدهما مع أبيهما الذي اقعده المرض والشلل عن تأمين العيش الكريم لهذه العائلة، وهو ما جعل القاضي يسارع إلى إطلاق سراحهما فوراً، ويأمر السراق بأن يكون عملهم، منذ اليوم، التفرغ الكامل لخدمة أبيهما، كما وأمر القاضي، بحسب كلام محدثي اللص، أن تتكفل الدولة الإسلامية بدفع راتب شهري ثابت لهؤلاء السراق، مقابل خدمتهم لأبيهم، والتكفل كذلك بدفع الإيجار الشهري لدارهم المستأجرة، بضمنه الأشهر الأخيرة، التي عجزت العائلة عن دفعها، إلى جانب دفع فواتير الكهرباء للمولدات الكهربائية الأهلية، والتي تجهز مدينة الموصل بالطاقة الكهربائية عند إنقطاع التيار الكهربائي الرئيس، والذي يتم تزويد مدن الخلافة به بالمجان..!

ليس هذا فقط - يضيف محمد - بل أن القاضي وعد اللصوص بالسعي لتحرير اُختهم، عبر مقايضتها بأحد أسرى البيشمركة الموجودين لدى الدولة الإسلامية..!

ثم ختم اللص كلامه لي بالقول، وهو يُقرب فمه من اُذني، وكإنه يكشف لي عن سرٍ لا أحد يعلم به سواه، مع أن كل من كان في السجن يتحدث بتلك الواقعة، وعن تلك الأحكام، كما رأيت لاحقاً، إذ يقول:

القاضي منحهم ظرفاً كبيراً، لا ندري ما فيه، وطلب منهما أن لا يفتحاه إلا أمام أبيهما!

ذهول أصابني، وأنا استمع لقول هذا الشخص، فقد شعرت إنني في حضرة محترف للكذب، مثلما هو محترف للصوصية على ما يبدو، لولا إنني وجدت كل من كان بين جدران ذلك السجن يتحدث، لاحقاً، بهذه الواقعة المشهودة، والتي سبقني شخوصها بالخروج من هناك، في ذات يوم وصولي للسجن الكبير، ومن سوء حظي إنني لم التقِ بهما في القاعة الأولى التي كنت أتواجد فيها، والتي من المفترض أن يمرا بها، كونهما كانا يُعرضان على القاضي في ذات الوقت الذي كنت أتواجد فيه هناك، لكن يبدو أن هذه القضية كان لها خصوصيةً، جعلت عرضها على القاضي يتم دون المرور بتلك القاعة، ربما نظراً لوضع والد اللصيّن، الذي كان يرقد في الدار، دون وجود من يعتي به، في ظل ولديه، وهو ما رجّحته وخمّنته، لا بناءاً على معلومات حصلت عليها!

في نهاية لقائي الأولي بذلك الشخص، الذي روى لي تفاصيل أغرب حكم على سارق سمعت به، عدت وسألت محدثي:

قلت ما هي تهمتك!؟

قال:

سرقت عمتي، ومحاولة قتل زوجها..!

قالها، وكإنه يسخر من تهمتي التي جئت بها، حينما ذكرت له، أول لقائنا، أن تهمتي (مخدرات)، ما دعاني للقول له ساخراً:

وإن شاء الله أنت تنتظر الإفراج والتعويض!؟

فقال وهو يقطب حاجبيه:

ولمَ لا، فلربما القاضي يَحنُّ عليّ، كما حنّ عليهما!

عدت إلى مضارب (أبي عمر) في ركنه، بعدما وضعت يديّ على الكثير من المواد الدسمة، التي وضحت ليّ الرموز الأولية لمعادلة القضاء في دولة الخلافة الإسلامية، فقال لي رفيق زنزانتي الأولى، والثانية الآن، (أبو عمر):

صحفي، لا تقدر على نفسك، تعال هنا، فأمامك الكثير مما تبحث عنه، وهو يشير إلى صاحبه (أبي عبدالله)، الذي كان يجلس بقربه، وربما يتساءل في داخله عن مغزى كلام (أبي عمر)، كلام لا يتمكن أحد من فك طلاسمه سواي، كون (أبا عمر) الوحيد الذي يعرف حقيقة وجودي هناك!

قال (أبو عبدالله):

يا مرحباً بك، حدثني عنك الشيخ كثيراً، وخشيت أن لا أراك، لكن الحمدلله قد كتب الله لنا لقاء..

ثم أردف:

إعذرني فانا لا أعرفك، فلست ممن يتابعون الإنترنت، أو أجهزة التلفزيون، أو الصحف، لكن من خلال حديث (أبو عمر) عنك أحببت أن أراك، وألتقيك!

قلت له، بعد رد كلمات الإطراء بحقي، والترحيب بي:

أنت من (الإخوة)، فكيف لا تتابع الإعلام وما يجري فيه!؟

ضحك، بقهقهة خفيفة، محولاً ناظريه إلى (أبي عمر) وهو يقول:

نحن لا علاقة لنا بالإعلام، (الجماعة) يأتون، فيصوّرننا في المعارك، ثم يذهبون بالصور، ولا ندري أين تذهب، أو متى تعرض، فكل ما يشغلنا نحن المقاتلين في الميدان هو سلاحنا والعدو، ولا نعرف ما يجري حولنا في فضاء الإعلام..!

توقفت عند كلام (أبو عبدالله) كثيراً، فالرجل يتحدث عن قيام الكتائب الإعلامية بمرافقتهم في المعارك، دون أن يشاهدوا ثمرة هذا الجهد، ورغم أهمية وضع المجاهد في صورة الإصدارات الإعلامية المختلفة، لكنني وضعت يدي على مصدر اللذة التي ينعم بها ويستشعرها المجاهد في سبيل الله، فهؤلاء الرجال لا يعلموا بما تبثه القنوات التلفزيونية المسمومة والمضللة، ولا يعرفون حرب الشائعات، ولا يدركون فجور وكذب وخنا الرافضة والصلبان بإدعاء تحرير هذه المدينة وتلك، فآساد الشرى هؤلاء منشغلون بالقتال، ولا شيء غير القتال، لا تأثير إعلامي عليهم، ولا معنويات تتأثر بهذا الإعلام وذاك، فهم محصنون من هذه الحرب الإعلامية الشرسة، بل حتى إعلام الدولة الإسلامية، لا يكاد كثير منهم يطلع عليه، فكل همهم الجهاد، ثم الجهاد، ثم الجهاد، رفيقهم فيه مصحف جيب بحجم كف، وبندقية، وكيس تمر صغير، وزجاجة ماء بلاستيكية، ثم القتال حتى النصر أو الشهادة، ولا يهمهم بما يجري حولهم من خداع، ولا يتأثرون بعاديات التضليل، فهم في عالم آخر، لا يدرك عظمة نشوته وحلاوة لذته، إلا من عاشه بنفسه!

يواصل (أبو عبدالله) حديثه معي:

أنا لم اُشاهد إصدار للدولة الإسلامية، التي اُقاتل تحت رايتها، إلا هنا في هذا السجن.. ثم اشار بيده إلى شاشة بلازما كبيرة الحجم، معلقة في الجانب الذي نجلس فيه من قاعتنا تلك، حيث ظهر أن إدارة السجن تقوم بإحضار إصدارات للدولة الإسلامية لتعرضها على السجناء والمعتقلين، فضلاً عن خطب ومحاضرات لشيوخ ودعاة يتحدثون فيها عن التوحيد ومبطلاته، والأيمان ومكملاته، ويحثونهم كذلك، من خلالها، على مداومة العبادات، وتجنب المعاصي والمنكرات، وغيرها من أمور الحياة، التي قد يجدها السجين أو المعتقل فرصة مناسبة للعودة إلى الله، سبحانه وتعالى، وهجر الطريق الذي كان يسلكه، مهما كان شكل زيغه، أو نوع جرمه، أو طبيعة إنحرافه..!

حتى ذلك الحين لم اسأل عن سبب سجن شخصية بوزن (أبي عبدالله)، فقد تركت له الحبل على غاربه، ليحدثني عن الكثير من الأمور التي لا يزال بعضها سر غامض، رغم مقاطعة السجناء لحديثنا، مراراً وتكراراً، فبإعتباره مسؤول القاعة الإداري، فإن ذلك يُحتم عليه التواصل مع جميع المعتقلين، لتأمين كافة إحتياجاتهم، حتى الطبية منها، فهو المخول الوحيد بالحديث مع الحراس!

تحدث لي (أبو عبدالله) عن عملية تحرير الموصل وفتحها، وعن دوره فيها..

كان يجلس متربعاً وهو يتحدث بإنفعال، متأثرأً بتلك الأحداث التي عاشها بنفسه..

يقول (أبو عبدالله)، كان عددنا، لحظة بدء عملية فتح الموصل، خمس وسبعون مجاهداً فقط، توزعنا على عدة محاور، وقد توليت أنا إحداها..

وقد بدأت الخطة بهجمات إستشهادية على مطار (الغزلاني)، الذي سرعان ما تهاوى بفعل العمليات الإستشهادية التي استهدفته..

ثم راح يحدثني عن الإستشهاديين، الذين كان بعضهم هو آخر من تحدث إليهم، قبل التنفيذ في مطار (الغزلاني)، الذي كان أحد أهم وأبرز مواقع العدو المحصّنة، وبعد سقوطه، بدأت عمليات الإنهيار تتسارع، خصوصاً أن الليل في الموصل بات في حقيقة الأمر في الأسابيع التي سبقت المعركة الكبرى في قبضة المجاهدين، وفي النهار يتم الإنسحاب، ليعود إلى الشيعة والأكراد!

يضيف (أبو عبدالله):

كانت الخطة محكمة، وكنا نردد: إن لم نفتح الموصل، فلا خير فينا ولا في حياتنا.. فتسابقنا على الموت، وهو ما ارعب قوات الجيش الشيعي والكردي والمرتدين، الذين بلغ الحال ببعض قطّعانهم وقطعاتهم إنهم هربوا قبل وصولنا بمسيرة ساعات..!

راح – أبو عبدالله- يشرح لي حيثيات تلك الملحمة الكبرى، وما تخللها وجرى فيها من تفاصيل دقيقة، اتحفظ على ذكر كثير منها، كونها تفاصيل عسكرية وأمنية بالدرجة الأولى..

ثم أخذ (أبو عبدالله) يشرح لي طريقة تحرير سجن (بادوش)، والتي قام بها بنفسه، إذ يقول:

كان برفقتي جرافة (شفل)، يقودها أخي الأصغر، وكنا نفتح بها الطرقات المغلقة، لنسهل مرور مركبات الإستشهاديين، الذين كانوا يصلون إلى الأهداف لينفذوا عليها، لكننا كنا نجد بعض المواقع فارغة، بعد هروب جميع الجنود بملابسهم الداخلية وبسراويلهم، فننتقل لموقع آخر وهدف جديد، وكنا نترك في كل موقع مجاهد او إثنين لحماية المواقع من السرقة، فيما كنا نواصل الزحف لتطهير بقية مناطق وأحياء الموصل، فيما كلفتُ نساء بيتي، وبقية إخوتي بإعداد الطعام للمجاهدين، حتى لا ينشغلوا بأي شيء عن إكمال تحرير الموصل..

ينتقل (أبو عبدالله) في حديثه بعدها إلى أهم إنجاز شارك فيه، كما يقول، ألا وهو عملية تحرير السجناء من سجن (بادوش) الشهير، الفائق التحصين، والذي كان لا يزال تحت سيطرة الشيعة الرافضة، وسطوة ملاحدة الأكراد لغاية تلك الساعة!

يقول (أبو عبدالله):

كنا ثلاثة مجاهدين فقط حينما وصلنا إلى سجن بادوش، أنا وأحد إخوتي، ومجاهد عربي كان برفقتنا، وكانت الحراسة عليه مشددة، خصوصاً عند البوابة الرئيسية، وكان الطريق، الذي يمر من أمامه، قد قطعته إدارة السجن، بعدما منعت السيارات والمركبات من المرور، خوفاً من المفخخات، وهو ما جعل عدد كبير من السيارات، التي فرّ أصحابها من داخل الموصل إلى الأطراف، هلعاً وخوفاً من ردة فعل الشيعة والأكراد، في حال لم تنجح خطة فتح وتحرير الموصل، على أيدي المجاهدين، لا سمح الله، تتوقف على مشارف السجن، على أمل أن يتم فتح الطريق، والسماح لهم بالمرور!

كانت أعداد السيارات المتوقفة، بإنتظار فتح الطريق، كبير جداً، وهو ما جعلنا نبتكر خطة للهجوم على السجن، رغم عدم امتلاكنا للسلاح الكافي، أو للعتاد، بل وللعدد، فنحن ثلاثة ليس إلا، لكننا كنا ندرك أن معيّة الله معنا، وهو سينصرنا عليهم، خصوصاً وإنهم مصابون بالرعب وخائفون، كيف لا، وأخبار الإنهيارات في مختلف مناطق وأحياء الموصل قد وصلتهم..!

وضعنا الخطة على عجل، فالوقت ليس في صالحنا، وعلينا استغلال كل نقطة ضعف في هيكل عدونا وجداره المتصدع..!

اتفقنا - يواصل أبو عبدالله- أن يقوم المجاهد العربي، الذي كان يشكل الضلع الثالث لمثلث مجموعتنا الصغيرة، بإستهداف الهمر المتوقفة أمام بوابة السجن الرئيسية، فحمل قاذفة الـ (آر بي جي) وتوجه إلى الهدف، بعدما أتخذ زاوية، يستطيع من خلالها الوصول لأقرب مسافة ممكنة من الهدف، فيما جهزت أنا راية الدولة الإسلامية (راية العقاب) السوداء، لأضعها فوق قمارة سيارتي (العذاري) حين الصولة على السجن، وتجهز خلفي أخي، ولم يكن اصحاب السيارات يدركون أنه ستكون هناك صولة منا على السجن..

وما أن وجّه أخينا المجاهد قذيفة الـ(آر بي جي) إلى الهمر، التي كانت متوقفة في زاوية أخرى من السجن، حتى تحركت الهمرات، التي كانت متوقفة أمام البوابة إلى الناحية الأخرى من السجن، فركبت بدوري السيارة بسرعة، وكذلك فعل أخي، وتوجهنا مسرعين سالكين الطريق بإتجاه السجن، فيما ظنت الأعداد الغفيرة من الناس، الذين كانوا ينتظرون فتح الطريق للمرور أن الطريق تم فتحه، ما جعلهم يستقلون سياراتهم هم أيضاً، ويتبعوننا في سباق محموم بينهم، أيهم يعبر أولاً ويجتاز السجن، فيما رفعت بدوري - يستطرد أبو عبدالله- (راية العقاب) السوداء فوق قمارة سيارتي، بعدما جعلت ساريتها بجانبي من جهة الباب، فظن حينها حراس السجن أن هذا الرتل الكبير من السيارات إنما هو رتل للمجاهدين وقد هاجم السجن، خصوصاً أن أولى السيارات التي توجهت إليهم كانت تحمل راية الدولة الإسلامية، فما كان منهم إلا أن تركوا أماكنهم وآلياتهم وهربوا، بل إن بعض الحراس أخذوا يلقون بملابسهم، حتى قبل أن نصلهم، وما أن وصلنا إلى السجن حتى سارعنا إلى فتح البوابة الرئيسية، ثم حطمنا أبواب القاعات، وبدأنا في إطلاق سراح السجناء، فسارعنا للإستيلاء على مخازن الأسلحة، ليتم تسليح المعتقلين المطلق سراحهم، والذين انضم لنا غالبيتهم العظمى، وسرعان ما احكمنا قبضتنا على السجن، وتركنا عليه عدد من الحراس، ممن كانوا سجناء بداخله، قبل أن ننتقل إلى موقع آخر..!

ثم راح يتحدث عن محور آخر يقوده أحد أصدقائه من المجاهدين، والذي قُتل لاحقاً، كما يقول، فحينما أتصل عليه وجده عند بوابة (كلك)، حيث المدخل الرئيس لمدينة أربيل، ويضحك قائلاً:

لولا أن الأوامر استوقفته، لإكمال السيطرة على الموصل أولاً، لكان قد دخل إلى أربيل وفتحها من ذلك الوقت، بعد إنهيار البيشمركة بشكل كامل!

أربيل، يا موطن أطيب لبن، يا دُرّة الشمال المتوارية بين الجبال،أسيطول بك المقام خارج السرب تُغردين، كلا وربي بركب الإسلام يوماً ستلتحقين، ولبغداد وكربلاء في التوحيد ستُنافسين!

خاتمة الحلقة

كنت قد وضعت عناوين عدّة لما قررت أن اتطرق إليه في الحلقة السابعة من سلسلة (هنا أرض الخلافة)، لكن ها أنذا أتجرّع ثانية مرارة الهزيمة أمام الدولة الإسلامية، ولا أتمكن من التطرق إلا إلى النزر اليسير مما شهدته وأبصرته، وحق لي الهزيمة أمام ظاهرة كونية، ربّانية، تحارب لأجل السماء فتنتصر على الأرض، وهذا سُرّها الذي لم يهتدِ إليه كثيرٌ من الباحثين في أغوار هذا المارد، الذي بات يغزو في كل الإتجاهات: شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوب، دون كلل أو ملل، وكل يوم تنبت لإخطبوطه ذراع جديدة، ما جعل الدم يتجمّد في شرايين الشرق، وفي أوردة الغرب، لتمنح لقلب سكان الخلافة نبض الأمن ودفقات السكينة، هذه الدولة الفتية التي جعلتني، رغم كوني في سجنها، أشعر بإنني في أكثر بقاع الكون نقاوة وأمناً.. فيا كل خصومها: مالكم كيف تحكمون!!